«العودة إلى الأمام» و«عقدة التقدم» الليبرالية
محمد المعوش محمد المعوش

«العودة إلى الأمام» و«عقدة التقدم» الليبرالية

يحاول الفكر الرسمي بشكله الليبرالي ومنذ عقود طويلة، وتحديداً خلال مرحلة تراجع الفكر الماركسي، أن يقدّم نفسه على أنه فكر التقدم والمستقبل، حاملاً الأفكار «الجديدة والحديثة». وفي محاولته هذه هو يتهم الماركسية والفكر التغييري بالتحجر والغرق في التاريخ، والحنين الدائم إليه. 

وكان لهذه المحاولة تأثير فعال في العقول وذلك لعدة أسباب. منها مثلاً: أن الطموح للجديد، الذي هو نزعة ضرورية لدى الإنسان، تلاقى من جهة مع الآلام التي عانتها الشعوب في مرحلة الصراع، والذي تم تحميلها بالغالب للفكر الشيوعي بعد ذروة التراجع، وتلاقى من جهة أخرى مع الحاجات الروحية التي تبلورت في فترة سيادة الليبرالية. ولكون هذه الحاجات لم يتم تعريفها بشكل ملموس وكيفية تحقيقها، وجدت صدى قوياً في مقولات «التجديد والتحديث» والأوهام التي تم الترويج لها عن الفردية الذاتية. وساعدت في ذلك ملامح جمود الرؤية والخطاب لدى القوى الثورية غالباً، وارتكازها بشكل كبير على رومنسية تاريخية لمواجهة تراجعها العام، فظهرت وكأنها توجه النظر فقط إلى «الوراء» بينما يتطلع الوعي السائد إلى «الأمام» بإيحاء أوهام الليبرالية ووعودها بالـ «الحلم». وهدف الفكر الرسمي من ذلك كله هو القول: إننا تخطينا التاريخ بكل إحداثياته التي شاخت، وبالتالي محاولة إلغاء مفردات الصراع السابق، حيث كانت قوى التغيير وفكرها في واجهته، بعد اصطناع كراهية ضد الماضي. وتحول هذا الكره فردياً إلى نبذ للماضي، كما يحاول المأزوم من ماضيه أن يهرب منه ويلغيه.
التطور- الجدلي الحلزوني الصاعد
يشكل النموذج الحلزوني (اللولبي) الصاعد، كتصوير لحركة التاريخ، الرد التصويري على هذه المحاولة الليبرالية لتصوير التاريخ بشكل خطي جامد. التطور الخطي بشكله الجامد الميكانيكي هو التعبير عن النظرة غير التاريخية، حيث يتم نكران المراحل التاريخية لتصبح بلا معنى. وحتى عند اعتراف أغلب «اليسار» بالماضي اعتماداً، يكون على أرضيةٍ ذات النظرة الخطيّة فتكون عودة رجعية إلى التاريخ ولا تشكل بديلاً عن الموقف الليبرالي الذي ينفي هذا التاريخ.
والتمايز بين النظرتين (الخطية والجدلية) له أهمية سياسية، أولاً: لقراءة التحول التاريخي الحالي. وثانياً: للنظر والاستفادة من تراكمات التجارب الماضية وإعطائها معناها التاريخي، إضافة لإحياء رموز هذه المراحل ومعانيها بالنسبة للحاضر. هو الموقف الثوري من التراث الثوري الأقرب والأبعد.
وهناك بعض النماذج التي تصوّر هذا التطور الحلزوني وغالباً هي نوعان، الأول: هو تساوي حلقات الحلزون الصاعد، حيث تكون الحلقة الأعلى مساوية للأدنى منها. أما الثاني: فيظهر الحلقات كأنها تضيق أكثر كلما اتجهت للأعلى. بالرغم من أن التصويرين يظهران التقدم التاريخي الصاعد على شكل دورات (تقدم- تراجع)، فإن النموذج الثاني القائل: أن الحلقات التاريخية تضيق في صعودها يعبر أكثر عن التحول النوعي في حدّة الدورة وتسارعها من جهة، وعن احتمال اندماج الحلقات في ذروتها لتصير في مرحلة ما منصهرة والتي تؤشر عملياً إلى حالة قطع سياسي.
اكتمال الحلقة التاريخية الراهنة
اعتماداً على الموقف الجدلي في تصور التطور التاريخي لا في شكله الخطي بل كعملية حلزونية صاعدة تضيق في دوراتها كلما تقدمت، فإن الأزمة الرأسمالية المنفجرة منذ عدة سنوات يمكن اعتبارها اكتمالاً لدورة من اللولب الصاعد، التي بدأت عمليا مع مرحلة تراجع حركة التغيير في العالم في منتصف القرن الماضي. أي: أن هذه الدورة التاريخية عادت (في الشكل فقط) إلى مرحلة كان الصراع ضد الرأسمالية يظهر بشكل فاعل، أي: أن الضرورة التاريخية عادت لتظهر بوضوح. ولكنها عودة أرقى حيث إن جديداً تاريخياً على صعيد عمق الأزمة واتساعها، وعلى صعيد حلها أيضاً. وهذا ما لا يقبله العقل «الخطّي» ولا يبالي به العقل «اليساري» الذي يقول بتماثل هذه الدورات التاريخية.
قانونا حفظ الطاقة؟
في الإشارة التبسيطية إلى الشكل الحلزوني الصاعد يَنتُج وهم لدى البعض بأن الدورات الماضية الدنيا لم تعد حاضرة، ولكن للدقة فإن مضمون هذه المراحل (أي: الضرورة التقدمية التي تحققت) ينتقل دائماً إلى المرحلة الأعلى التي تستوعبه، كما يعبّر نموذج تصويري قدّمه د. أسامة دليقان على صفحته على «فيسبوك». ولهذا يتفاجأ البعض في عودة قوية لملامح من مراحل سابقة.
ولهذا مثلاً نشهد اليوم، أي: عند اكتمال دورة الرأسمالية بعد مرحلة التراجع وملاقاتها لأزمتها، حضوراً لمجمل التجربة التغييرية التاريخية دفعة واحدة، وفي العالم كله، وكأن التاريخ الصراعي للشعوب يتمثل في لحظة مكثفة واحدة بسبب طبيعة شمولية الأزمة الرأسمالية. هذه الملامح التي ظهرت يوماً أنها سقطت من التاريخ ونُسيت.
هذا تعبير على مستوى التاريخ عن قانون حفظ الطاقة الطبيعي، حيث لا شيء يضيع، أو كما سماه وصاغه الدكتور قدري جميل في أحد أحاديثه: «قانون التعويض التاريخي». ولكن مع فارق نوعي، أن استعادة الطاقة الكامنة في التاريخ لا يتم بشكل تلقائي طبيعي، بل من خلال جهود القوى البشرية الحية، التي هي المحقق الفعلي للتاريخ.
فالشعب الفييتنامي اليوم مثلاً يقارن واقعه وحكومته بنموذج هوتشي مين ويقول :«العم (هُو) لم يكن يملك مالاً ولا ثروة، أنظروا إلى أغلب المسؤولين اليوم»، كما تقارن أغلب شعوب دول الاتحاد السوفييتي اليوم واقعها بما قبل الانهيار. وكما نعود اليوم في دولنا إلى رموز التحرر، وكما يعود العالم كله إلى ماركس لكي يستكمل ما توقف منذ مرحلة التراجع الماضية. كل الماضي التقدمي وأوراق الكتب التي صار ورقها «أصفر» يشكل اليوم منصة للتقدم مرة جديدة. وهكذا يكون التاريخ في حركته اللولبية «يعود إلى الأمام»، مهما هِّولت علينا عقدة «التقدم» لدى الفكر الرسمي بأننا نسير إلى الخلف.

معلومات إضافية

العدد رقم:
903