الواقع: «بالجُملَة» أمّا الفكر: «بالمفَرَّق»
إن مراجعة تاريخ الصراعات الفكرية، التي تقدم تصورات شاملة، إما بشكلها الظاهر أو الضمني، تُظهر الطابع الكلي لهذه التصورات بمختلف مضامينها، فالمثالية تقدم تصورها الشامل بمختلف أشكاله التاريخية وكذلك المادية.
هذا الشكل من الكُليّة يجعل من الممكن على الفكر الناقد والناقض أن يقيّم الطرح الذي أمامه، وبالتالي أن يبني موقفاً منه. أما اختلال هذه الوحدة في الطرح أو إخفائها يعرض الفكر الناقد نفسه لخطر تفكك وحدته، وبالتالي موقفه في حال لم يتنبه إلى حيلة إخفاء الوحدة تلك. الوحدة المقصودة ليست اختيارية بل هي تعبير عن وحدة العالم وظواهره وحركتها، والموقف منها لا يمكن إلا في أخذها في وحدتها.
التفكيك والفكر السائد
التفكيك: هو ميزة الفكر السائد في مرحلة ما بعد الحداثة، انعكس مثلاً في الفن والعمل السياسي، في صيغة تفكيك القضايا وخصوصاً تمظهرها من خلال عمل الجمعيات «غير الحكومية»، وتفكيك العلوم من خلال تشظية المواضيع المدروسة وعزلها، وكلها دعمت وترافقت مع تفكيك المجتمع إلى نواتات وخلايا متصارعة للتغطية على الصراع السياسي الاقتصادي الفعلي ضد الرأسمالية.
التعمية على الواقع والتفكيك و«حرية التعبير»
يُطل شعار «حرية التعبير» من كل زاوية وصوب، وهو: إن كان بالضرورة شعاراً ديمقراطياً، ولكن في مضمونه: هو تعبير عن طرح فكري سياسي، وإلا فَعن ماذا يكون التعبير أساساً؟! وشعار «حرية التعبير» انعكاس للممارسة النوعية للصراع والقمع الطبقي من قبل الرأسمالية في منتصف القرن العشرين، أو ما يسمى التسوية التاريخية أو التنازل التاريخي مع الطبقة العاملة. ومن خلاله أرادت الرأسمالية القول: يمكن للجماهير الكلام في السياسة والفكر والمجتمع وكل ما تريد، ولكن على أرضية التفكيك من جهة، والتسطيح الشكلي من جهة أخرى، أو تحويل الصراع من صراع طبقي إلى صراع أفكار محض. وهو ما كان من جهة تعبيراً عن ممارسة تعطيل فعالية الجماهير، وهي على المسرح التاريخي الذي اقتحمته في النصف الأول وخلال النصف الثاني من القرن الماضي، ولم يعد من الممكن أمام الرأسمالية أن تعيد التاريخ إلى حيث كانت الجماهير خارج هذا المسرح بالإحداثيات السابقة. ومن جهة ثانية: هو تعطيل لفعالية الأحزاب الثورية، فهي عندما سمحت بالفكر السياسي والحوار السياسي والتلفزيون والجريدة السياسية وغيرها، قدمت حيلتها في أن عممت الفكر السياسي بغاية تعطيله وتشويه منطلقاته وتبسيطها وتفكيكها، وهذا ما تلمسه مهدي عامل أيضاً في كتابه الأخير «في نقد الفكر اليومي» الذي حوّل الفكر السياسي إلى نقاش في الأحداث وحدها، ناطقة بلغة العدمية والظلامية. وعلى أساس ما سبق، تصبح العلاقة بين الأحزاب وبين الناس علاقة «تصارع آراء»، وهو ما حصل ويحصل فعلاً لدى الكثير من القوى السياسية الثورية، التي أصرت على ناحية الحديث السياسي الفوقي مع الناس من أجل إقناعها السياسي، مع إغفال التوجه الاجتماعي للتحول في الحاجات الجديدة والقديمة لدى الناس. وهو ما يعني: أنّ على هذه الأحزاب أن تهزم الناس فكرياً حتى تكسبها! فوضع الأحزاب بحالة مواجهة عدائية مع الناس مسبقاً، والدلائل كثيرة في مواقع التواصل الاجتماعي أو الممارسات النقاشية المباشرة اليومية مع الناس.
الفيسبوك والتفكيك
التفكيك أداة لتعطيل الفكر، ليس لمن يمارس التفكيك فقط، بل من يقع في فخ ممارسته أيضاً. ولأن الفيسبوك: هو المنصة اليومية التي يمكن من خلالها قياس الموقف العام تجاه القضايا، فيمكن أن نقول فيه: إنه مرآة ووسيلة للتفكيك في آن واحد.
دليل أول: هناك المادة التي عادة ما يطلق عليها صفة «اقتباسات» والتي تترافق عادة مع صورة أو اسم الكاتب المقتبسة عنه. وبغض النظر عن محتوى الاقتباس وإضافة إلى الصفة العامة لأي اقتباس مما قد يخرج الاقتباس عن سياقه، فإن الاقتباس «السائد» (وليس كل اقتباس) عامة يكون مفتقراً للطرح الكلي الموحد حول الواقع. ومنطق الاقتباس هذا ينسحب لكي يصير منطق تلقّي أي طرح آخر، فلا تعود كلّيته هي المهمة، بل يصبح وقع الموقف المعزول هو الأساس.
دليل آخر: هو كون الفسيبوك أساساً منصة «تعبير حر» شكلاً، والفيسبوك غالباً: هو تعبير «لأفراد» وليس لأحزاب تمارس الفكر الكلي (عن واقع كلي) إذا أمكن القول، فيصير الفضاء العام (كون الفيسبوك هو الفضاء «المركزي» للتعبير اليوم) محكوماً بالمواقف تجاه القضايا بالمفرق: البيئة، حدث معين، ظاهرة الإجرام، الفن، كل قضية سياسية بحد ذاتها.. واللائحة تطول.
هكذا، وعند القبول بواقع ممارسة التفكيك هذا، دون أن تتم موضعة المواقف في صورة موحدة، هي أساساً تجاه عالم موحد تدور فيه الأحداث والقضايا، يصبح القبول دليل موافقة بالمبدأ، حتى لو رُفِض الموقف المطروح المعزول شكلاً وعملاً بقانون «بالنقيض يكون النقيض»، فإن تَنقُض فكراً (هو في بنيته مفكك) لا على تفكيكه، يعني: الانتقال إلى بنيته الفكرية ذاتها، ولو اختلف الطرحان.
ولهذا مثلاً، كثيراً ما نرى الموافقة على موقف قد أعلنه أحد ما على «حائطه»، ولكن لا نوافق على موقف آخر له في لحظة مختلفة، مع أنّ الموقفين نحو قضيتين في الواقع موحدتين ولا يمكن أن تؤخذا منفردتين.
هذا لا يعني دعوة إما لمنطق القبول الكلي أو الرفض الكلي، ما يحيل إلى غياب الواقعية في الممارسة، ولكنه بالأساس يشير إلى ضرورة وحدة الموقف النظري الذي هو وحدة الواقع نفسه، هذا الموقف الذي لا يزال الطابع العام للممارسة الفكرية مفتقراً له. فالصورة الكلية اليوم المطلوب إظهارها دائماً هي: التناقض الأساس حول المرحلة التاريخية، ومصير الرأسمالية كنظام اجتماعي، ومصير العالم، والباقي تفرعات له.