ثلاثة أجيال... تتوارث «عنف الإلحاق»
لم يلغِ انتقال الاستعمار من مباشر إلى غير مباشر، ولو لحظةً واحدة، المفعول التدميري للتبعية للإمبريالية. فالإلحاق الاقتصادي نفسه، يتحول إلى فعل فرضٍ لنموذجٍ اقتصادي أُسقط بالقوة على البلاد الملحقة، قاطعاً تطورها اقتصادياً، ومشوهاً مسار تفاعلها وعلاقاتها الاجتماعية، فقطع التطور، وإلحاق التابعين بالمتبوعين، هو لجمٌ وكبحٌ للتطور، وممارسة عنفية. يشكل تراكم مسارها فعل الإجرام الذي يعتّم عليه بينما يتسرّب من ظواهر اجتماعية كثيرة.
الصورة الكلية لمسار العقود الماضية منذ منتصف القرن الماضي وصولاً لما بعد التسعينيات يقدم مستويات مختلفةً لأثر الإلحاق القسري لمجتمعاتنا. إن الرأسمالية التابعة التي تشكلت في الأطراف التي لم تقم بثوراتها الاشتراكية المتبلورة (روسيا، كوبا، والصين مثالاً) حافظت على علاقات الإنتاج السائدة قبلها كالإقطاع، والإنتاج الحرفي الصغير بشكل عام من خلال إخضاعها للسوق الرأسمالي، فلا هي سمحت لها بالتطور ولا ألغتها. وهذا بدوره يؤدي إلى لجم التطور الاجتماعي، ويبقي ظواهر اجتماعية قديمة حيّة-ميتة، تتعايش وسط الجديد المولود مشوّهاً.
هذا التعايش بين القديم والجديد، حيث القديم لا يمتلك كل أسباب الزوال، والجديد لا يمتلك كل أسباب الاكتمال، أنتج تناقضات حادةً وعنفاً حكم حياة الملايين.
العنف المعنوي المنتقل تاريخياً
العنصر الأهم في ذلك، أن عملية قطع التطور، والإلحاق بالمركز، حصل بشكل سريع نسبة للعمر الزمني للإنسان. ما جعل مثلاً جيل الثلاثينيات والأربعينيات يعيش هذه التحولات القسرية ضمن مدى حياته... الذي كان يشهد تسارعاً وتعقيداً للتحولات الرأسمالية الليبرالية، فانتزع من واقعه الذي شكل وعيه وشخصيته ومشاعره نحو واقع آخر له منطقه الخاص في نمط الحياة، إن كان في سرعته أو تعقيده، والأهم في قيمه وأهدافه ومعانيه وأدواره. وبما أن القوى الشعبية المقهورة هي الأقل قدرة على المناورة في التحولات الاقتصادية الكبرى كهذه، هُمِّشت وكأنّها رُمِيت خارج تاريخها وأسقطت عليها حياةً غير تلك التي عرفتها، فالتحول لم يحصل في صالحها بل على حسابها. جعلها ذلك ضعيفة في التعامل مع واقعها وأكثر صراعاً ودفاعية تجاهه، وتأقلمها نفسه كان تشوها وآلاماً وعذابات، تجد أساسها في أنها لا تملك مكاناً في الواقع الجديد المشوّه، ولم تتمكن من الإمساك معرفياً بظواهره.
مقولات مضلِّلة: «صراع الأجيال» مثالاً
إذا اعتبرنا أن المرحلة الزمنية حملت في مضمونها ثلاثة أجيال تقريباً، كانت الصراعات تعاش فردياً وجماعياً (طوائف، مناطق...) أفقياً، وعلى مستوى علاقات الأجيال (الأهل الأبناء في العائلة) عمودياً، فانعكس ذلك في مقولات الليبرالية كصراع الأجيال. وكون الرأسمالية التابعة كانت تتعمق فيها علاقات السوق أكثر فأكثر، كان كل جيل يخضع هو نفسه للاقتلاع ذاته كما حصل مع الجيل السابق، ولكنه يعيش في آنٍ عنف الاقتلاع السابق. أما الانقطاع الأكثر حدة فكان في التوسع النيوليبرالي الذي قدَّم نمطاً أكثر حدة في المعاناة الاقتصادية، وبالتالي في قِيمهِ الفردية الاستهلاكية وأفكاره وعلاقاته.
في هذا الشكل من القطيعة التاريخية، وما تحمله من عنف، صار كل جيل محكوماً بآليته الخاصة للدفاع عن نفسه أمام الواقع، يرفض الجديد المنعكس في الجيل الذي لحقه، ونشأ نوع من انقطاع التواصل والعنف المعنوي المتبادل. أليس هذا ما يعبر عنه الجيل الشاب اليوم في تمرده على موروث عائلي اجتماعي يمثل له الجانب المحافظ. هذا التمرد غالباً ما يظهر في شكله الليبرالي الذي يغيّب الأصل الطبقي التاريخي والاقتصادي الاجتماعي، جاعلاً من الضحية (الجيل السابق) جلاداً صابّاً عليها تمرده، مع أنها كضحية في «عنفها» ذلك لا تفعل غير أن تنقل العنف التاريخي الممارس عليها، فهي فقدت شيئاً فشيئاً مرجعيتها الاجتماعية ودورها الذي تعودت عليه، وقدرتها على التلاؤم الذهني والعاطفي مع الجديد.
العنف الاقتصادي
المادي المنتقل تاريخياً
إضافة إلى العنف المعنوي هناك العنف المادي الموروث، ففي ظل فقدان كل جيل لإمكانية فعاليته الاقتصادية جراء تدمير التحول الرأسمالي السريع للأدوار الاقتصادية السابقة، ورمي كتل اجتماعية بكاملها دون فعالية، مضافاً ذلك إلى غياب أي دور للدول التابعة في الرعاية الاجتماعية كدور المسنين أو دور الحضانة العامة أو فرص العمل التي تتقلص تاريخياً (مع مراعاة الفروق بين الدول) جعل من كل جيل معيلاً اقتصادياً واجتماعياً (الاهتمام والمرافقة والعناية) للجيل السابق، ولنفسه، وللجيل اللاحق كذلك. وخصوصاً أن العائلة الممتدة تقلصت مع الوقت، والدخل الفردي في تقلّص، ما يجعل فرداً أو اثنين معيلين راعيين وحيدين لعائلة أو أكثر.
شعارُ حقٍّ يُراد به باطل
أليس هذا ما يعزينا به الليبراليون أن مجتمعاتنا فيها «تضامن اجتماعي» يميزها. هذا صحيح ولكن «التضامن» المقصود هذا هو عنف اقتصادي اجتماعي معنوي لرأسماليتنا التابعة، يحمل عبأه الفقراء والقوى المهمشة غالباً. هم الذين يريدون تضامنا منتجاً لا تضامناً يدفعهم للأسفل، ويحولهم إلى أعداء ضمنيين لبعضهم. يريدون اقتصاداً منتجاً وعادلاً ودولةً لهم فيها دور، لا مقتَلَعين من وجودهم.