البقسماط الأسود «2» عن يوميات العامين الأوائل من ثورة أكتوبر
نستكمل في المقال الحالي عرض مقتطفات من كتاب (البقسماط الأسود) لكاتبته يليزافيتا درابكينا، التي وثقت في مذكراتها العامين الأوائل بعد نجاح ثورة أكتوبر في عام 1917... حيث وسط الحصار والمعارك والنضال المرّ لشعب روسيا لحماية ثورته، كانت الأعين تترصد عمال العالم ومحاولاتهم لانتزاع نصر كنصر أكتوبر. النصر الذي صنعته التضحيات، وأبطال كسفيردلوف الذي تخصه درابكينا بذكرياتها..
كانت الجمهورية السوفييتية مقطوعة عن العالم كله، وفي محطات الإذاعة الضعيفة، كان ملتقطو الأنباء المتلهفون لسماع شيء عما يحدث في الغرب، ينقبون ليلاً ونهاراً في الأثير عن الإضرابات في ألمانيا وتمردات الجياع في بلغاريا، وانتفاضات الجنود في الجيش الفرنسي، وإضرابات فلاحي مزارع الرز في اليابان.
كان الورق قليلاً، والجرائد لا تكفي، فكان الناس يتجمعون قرب واجهات المخازن حيث كانت تعلق «النشرات الثورية لوكالة الأنباء الروسية» مكتوبة بخط اليد على شرائط ورق طويلة، وكانت النشرات تقرأ بصوت مسموع.
سوفييتات بلغاريا
ترك آلاف الجنود البلغاريين جبهاتهم وشكلوا سوفييتات لنواب الجنود، وساروا في مسيرة إلى صوفيا. وفي شوارع موسكو، كان أناس مجهولون يصافح بعضهم بعضاً بفرح قائلين: «بدأ الأمر يتحقق».
استمرت الأحداث في التصاعد، أطلق سراح كارل ليبكنخت من سجن الأشغال الشاقة، تألفت في فيينا وبودابست سوفييتات لنواب العمال والجنود، وقتل البحارة المنتفضون الديكتاتوري المجري تيسا، وأعلنت الجمهورية في بلغاريا، وفي ألمانيا يطوف شبح الثورة.
حكاية الشتاء
لم أرَ سفيردلوف كما رأيته أيام تشرين الثاني 1918، إنه وهو الخفيف الحركة المندفع السريع دائماً، كان في تلك الأيام لا يسير، بل كأنما يطير، غير شاعر بالأرض تحت قدميه، وخلال يوم واحد كان يزور عشرة أماكن، يترأس اجتماع اللجنة التنفيذية المركزية لعموم روسيا، ويحضر اجتماع مجلس مفوضي الشعب، ويخطب في اجتماع ثكنة للجيش الأحمر، ويستقبل رسل الفلاحين من تامبوف، ويتحادث مع فريق من الشيوعيين المرسلين إلى الجبهة الجنوبية، ويهيئ مكاناً في المصحة لرفيق أصابه المرض، ويدرس والقلم بيده مقالة جديدة للينين، ويسيّر ألفاً آخرَ من الأعمال.
ثورة السوفييتات في ألمانيا
ازداد الوضع في ألمانيا توتراً، وكان واضحاً أن أحداثاً حاسمة ستقع في الأيام القريبة المقبلة، وكان الجميع يتمنون أن تحدث الثورة في 7 تشرين الثاني 1918 في نفس اليوم الذي حدثت فيه الثورة في روسيا.
قبيل أيام التقطت برقية لاسلكية عن انتفاضة البحارة في كيل، وفي اليوم التالي سمع الناس بتشكيل السوفييتات الأولى في ألمانيا، وترددت في ألمانيا كلها مطاليب الإطاحة بملكية غليوم وعقد الصلح فوراً. تدخلت الاشتراكية الديمقراطية لإنقاذ الملكية، ولكن لم يستطع شيء إيقاف العاصفة الثورية الزاحفة.
تلقت محطة الإذاعة في موسكو أمراً يقضي بأن تقدم إلى لينين وسفيردلوف على الفور كل البرقيات التي تستطيع التقاطها. وفي 9 تشرين الثاني جلب المراسل إلى مسرح البولشوي حيث كان مؤتمر السوفييتات السادس منعقداً نبأً أورده راديو لندن، أن الإضراب العام قد عم برلين، وأن آلافاً من العمال تجمعوا أمام القصر الإمبراطوري، وأعلن ليبكنخت ألمانيا جمهورية اشتراكية. استقبل هذا النبأ بعاصفة شديدة من الهتاف والتصفيق حتى أن الثريا البلورية الكبيرة عند السقف قد اهتزت.
البقسماط الأسود
وصل سفيردلوف إلى دائرة التلغراف المركزية، أسرع إلى التليفون رأساً، ورفع السماعة، ثم اتصل بمفوض التموين: يا ألكسندر ديميتريفيتش! وأخيراً وجدتك. ماذا عن الخبز؟ أرسل إلى برلين حالاً القطار الأول.
خبز! خبز للشغيلة الألمان! كتب لينين إلى سفيردلوف مذكرة لاتخاذ تدابير عملية عاجلة من أجل مساعدة البروليتاريا الألمانية. إن الشعب الذي أضنته الحرب والخراب والمجاعة والتدخل المسلح والعصيانات المعادية للثورة، قرر ودون تردد، أن يقتسم قطعة خبزه مع الشعب الألماني.
أرسلت الحكومة السوفييتية القطارين الأولين من الخبز إلى ألمانيا في 11 تشرين الثاني، وجرت تعبئة قطارات جديدة. وسافرت وفود من الشبيبة الشيوعية الروسية لتهنئة الشبيبة العاملة الألمانية. وسافرت يليزافيتا درابكينا مؤلفة كتاب «البقسماط الأسود» مع الوفود إلى ألمانيا. رفضت الحكومة الألمانية الخبز السوفييتي، وفي كانون الأول حدثت الثورة المضادة، ونفذت المجازر الدموية بحق الشيوعيين ومنهم قادة الحزب الشيوعي كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ.
الخريف الذهبي للقبور الطرية
عادت يليزافيتا درابكينا إلى موسكو خريف 1919، وعند حائط الكريملين، وإلى جانب قبور الرفاق الذين سقطوا في معارك ثورة أكتوبر، قبر طري هو قبر ياكوف سفيردلوف.
مات سفيردلوف إثر إصابته بنزلة صدرية وهو يخطب أمام العمال في اجتماع في مستودعات أورلوفسكي للسكك الحديدية. ظل يواصل عمله وهو مصاب بالإنفلونزا الإسبانية حتى انهار، وكان يتحدث عن الحزب والحمى تلتهمه ويفقد الوعي.
عندما علم لينين بمرض سفيردلوف أسرع إليه، وسُرّ ياكوف برؤيته وحاول أن يتحدث عن الأعمال المتعلقة بانعقاد مؤتمر الحزب لكنه لم يقدر، أمسك لينين يده وشد عليها بقوة، وبعد خروج لينين بنصف ساعة رحل سفيردلوف، ودفن عند جدار الكريملين حيث يرقد الرفاق فقط.
جامعة سفيردلوفكا
كان سفيردلوف يعمل مساعداً في صيدلية بضواحي مدينة نيجنى نوفغورود في عام 1900، انضم للحزب الاشتراكي الديمقراطي 1901، وفي 1903 انضم للجناح البلشفي، وأصبح عضواً في اللجنة المركزية 1913.
نظم سفيردلوف مظاهرة البلاشفة اعتراضاً على قرار السلطات بإبعاد مكسيم جوركي عن نيجنى نوفغورود، اعتقل وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة 1902، هنا بدأ نضاله السري وظلّ قابعاً في العالم السفلي ينظم ويشرف على لجان الحزب حتى اندلاع الثورة.
قاد تنظيم التظاهرات العمالية في بتروغراد وكرونشتادت تموز 1917. وكان مشرفاً على المسيرة المسلحة للعمال التي تسببت في أزمة كبيرة على المسرح السياسي العام فى روسيا، وكان هو واضع الشعارات القتالية للثوار.
أطلقت الحكومة السوفييتية اسم ياكوف سفيردلوف على الجامعة الشيوعية التي صارت تدعى جامعة سفيردلوفكا. وحاضر فيها رفاق يعرفون هذه المادة أو تلك، رفاق استقوا معارفهم في «جامعات السجون» وساحات النضال.
«الشيوعي» لقب رفيع
عرفت الطبقة العاملة الروسية حزب البلاشفة خلال عقدين من الزمن، وسارت تحت رايته تقتحم قلعة الرأسمال، وناضلت ضد الأعداء سنتين، وكانت ترى في الحزب البلشفي مآثره الجديدة والمسؤوليات العظيمة.
إن الشعب العامل وهو يتحسس بفطرته الطبقية، فطرة البروليتاريا، جعل من كلمة «الشيوعي» مرادفة للنزاهة والشجاعة والنبل وخدمة القضية العادلة، إن الشيوعي إنسان لا يَخذل ولا يخون، هو أخلص العاملين وأنبلهم عقيدة وأكثرهم تقدمية، يعمل بالطريقة الشيوعية لمواجهة جميع المحن من أجل المستقبل الجيد.
أجل كل ذلك كان، واليوم عندما تتذكر ذلك، تتملكك الرغبة في أن تكون أحسن، وأرفع، في أن تكون دائماً أهلاً للقب الشيوعي الرفيع. هكذا كتبت يليزافيتا درابكينا في نهاية كتابها، والتي كان يناديها لينين باسم يليزافيتا فوروبي، أي: يليزافيتا العصفورة.