البقسماط الأسود (1) عن يوميات العامين الأوائل من ثورة أكتوبر
البقسماط الأسود، تسمية غير مألوفة لكتاب، فما هو البقسماط؟ إنه خبز مجفف... ولم أسود؟ لأنه يخبز من طحين الجودار: أرخص أنواع الطحين المستحصل من الجودار. والبقسماط الأسود كتاب يروي أحداث ثورة أكتوبر وما بعدها حتى عام 1919 من تأليف يليزافيتا درابكينا الرفيقة الشابة التي عاشت تلك الأحداث عن قرب ووثقت أحداث السنتين الأوليين.
نضع بين يدي القارئ مقتطفات من الكتاب بمناسبة ذكرى ثورة أكتوبر في 7 نوفمبر 1917.
كان شغيلة روسيا يتناولون 150 غراماً يومياً من هذا الخبز، وقرروا اقتسام آخر كسرة خبز مع شغيلة ألمانيا التي اندلعت فيها ثورة السوفييتات عام 1918. مرسلين إليهم البقسماط الأسود.
مثل هذا الحزب موجود!
في حزيران 1917، انعقد المؤتمر الأول لسوفييتات نواب العمال والجنود والبحارة لعموم روسيا، وشارك ممثلو الأحزاب السياسية المختلفة في الحديث، وكان البرنامج السياسي لكل حزب يتمحور حول الحرب والسلم وحول طريق تطور البلاد.
أعلن البلاشفة علناً تأييدهم للسلم، بينما أيدت بقية الأحزاب حكومة كيرينسكي الحرب. قال أحد المناشفة: في اللحظة الراهنة لا يوجد في روسيا حزب سياسي يمكن أن يقول ضعوا السلطة في أيدينا، اخرجوا لنحتل مكانكم. إن مثل هذا الحزب غير موجود في روسيا. لقي هذا الكلام تأييداً من الأحزاب، إلّا أن صوتاً مرناً بدد السكون فجأة: موجود!
مثل هذا الحزب موجود! وتردد فوق القاعة التي جمدتها المفاجأة، وفوق روسيا وفوق العالم كله، صوت لينين المملوء قوة وعاطفة وناراً: موجود! إن مثل هذا الحزب موجود! إنه حزب البلاشفة.
تلقوا تعليمهم في السجون
كان الوقت عصيباً، اقتُحم مقر جريدة البرافدا، وأصدرت الحكومة المؤقتة أمراً باعتقال لينين، وزُجّ البلاشفة في السجون وقتلوا في الشوارع. في منطقة فيبورغ التي كان مجلسها تحت سلطة البلاشفة، ولتأمين انتصار الثورة اجتمع المؤتمر السادس للحزب في أواخر تموز.
وزعت الاستمارات على 171 مندوباً، وكانت النتائج أن مجموع السنين لمن عملوا في الحركة الثورية، بلغ ألفاً وسبعمائة وواحدٍ وعشرين عاماً، وقد اعتقلوا 541 مرة، بمعدل ثلاث مرات لكل شخص، وقضوا زهاء 500 عام في السجون والمنافي والأشغال الشاقة. وكان نصفهم حاصلاً على تعليم عالٍ أو ثانوي، بينما النصف الآخر تلقوا تعليمهم في السجون يقرقعون بالأصفاد في مناجم سيبيريا وهم يتبادلون النكات.
اجتمعوا في مؤتمر الحزب، وهم يعرفون أن خطراً مميتاً يتهددهم، وواصلوا العمل بكل جرأة وهدوء واستمعوا لتقارير ستالين وسفيردلوف. أقر المؤتمر كراس «حول الشعارات» الذي وضع فيه لينين أمام الحزب مهمة استيلاء البروليتاريا على السلطة. تلك المهمة التي أعلنت مدافع الطراد البحري آفرورا عن بدئها، عن بدء ثورة أكتوبر «25 أكتوبر حسب التقويم القديم، 7 نوفمبر حسب التقويم الحديث».
مصير الإنسانية
بعد يوم واحد من الثورة، لم ترَ امرأة تعيسة في هذه الليلة غير مأزقها، فألقت بطفلها عند مدخل البيت. التقطه حارس أحمر من الدورية وقال: لا تحزن يا صغيري، الحياة لنا الآن، سأحمله إلى سمولني وهناك سيبتون في أمره، هناك يبتون في كل شيء. كان هذا البحار على حق، فهناك في سمولني كان يُبت في تلك الساعة في كل شيء: في مصير الإنسانية وفي مصير هذه الفلذة الصغيرة.
المهمة العظيمة
كانت قوى العالم القديم تقرأ الفاتحة على روح روسيا وهي حيّة، أما لينين فقد وضع أمام الحزب والطبقة العاملة والشعب مهمة عظيمة: التوصل مهما يكن من شيء إلى ألا تكون روسيا بعد الآن بائسة ومنهوكة، وتصبح عزيزة وجبارة في المعنى الكامل لهاتين الكلمتين.
مليون فولط كهربائي
أنهى لينين كتابه «الدولة والثورة»، وختمه بالكلمات التالية: إن ممارسة تجربة الثورة أمتع وأنفع من الكتابة عنها، وانصرف إلى ممارسة هذه التجربة الممتعة والمفيدة، وكل حركة من حركاته تنبض بحيوية الإنسان المفعم بسعادة حياته الصعبة الجاهدة.
في ربيع 1918 زاره وفد من عمال محطة موسكو الكهرومائية، وعندما عاد العمال دعوا إلى اجتماع لعمال محطتهم لإبلاغهم عن مجريات الزيارة. صاحت أصوات من الحشد: أي شخص هذا لينين؟
فكر رئيس الوفد ثم أجاب بثقة: أظن أنه يوازي مليون فولط كهربائي. ويجب أن يتذكر المرء كيف كانت روسيا آنذاك بمحطاتها الكهربائية الضعيفة جداً ليدرك ما هو تعبير مليون فولط!
لقد تفتحت موهبة الانتصار
قال لينين في اجتماع ريفي: كفى دعاء للخلاص من المجاعة والسيف والنار، وتعالوا نصادر الحبوب من الكولاك، ونصنع القرميد للسقوف، ونتجند في الجيش الأحمر، لقد تفتحت للشعب عندنا موهبة جديدة، موهبة الانتصار.
كان يحب الشعب كثيراً، لا الشعب بمعناه الشكلي، الشعب المزعوم، والناعم والأملس، بل الشعب الحقيقي الحي، العامل، المُعاني. العظيم أحياناً والضعيف أحياناً أخرى، ذلك الشعب المؤلف من ملايين الناس البسطاء الخالقين للبشرية.
أنا مُصغٍ لك يا رفيق
وضع رئيس هيئة رئاسة اللجنة التنفيذية المركزية لعموم روسيا ياكوف سفيردلوف قاعدة إلزامية تقول: يجب ألا يخرج أي عامل أو فلاح من المقابلة دون أن يحصل على قرار شامل في شأنه.
تذكر سفيردلوف كل شخص زاره ولو مرة واحدة، وكان بوسعه أن يقول عن كل عامل في الحزب معروف بعض الشيء: «هذا مُنظم جيد، في عام 1905 اشتغل في تولا، ثم في موسكو، وسجن في السجن المركزي للأشغال الشاقة في أوريول، وقضى النفي في ياكوتيا. أما هذا فهو ضعيف قليلاً كمنظم، إلا أنه داعية ممتاز».
الصبي الأشعث يدعو للاجتماع
ظهر من حيث لا نعلم صبي أحمر الشعر أشعثه، يشبه تماماً بطلاً من أبطال حكايات الأطفال وصاح: أيها الرفاق! جاء لينين إلينا في سيميونوفو، إلى هناك بسرعة!
جرت العادة أن تقيم لجنة موسكو للحزب كل يوم جمعة اجتماعات حاشدة مفتوحة في المناطق العمالية، والمعامل والمصانع، يخطب فيها خطباء بلاشفة بارزون، وتختار أكثر المواضيع حدة وأشغلها لفكر الجماهير الشعبية الواسعة.
تحدث لينين في ذلك اليوم أمام أكثر من 2000 عامل في مصنع آمو عن الحرب الأهلية ومهمات الطبقة العاملة، وكان ينتقل من مجموعة إلى مجموعة ويعيد إلقاء كلمته ليسمعه الجميع.
الوطن الاشتراكي في خطر
بدأت الفصائل العمالية تستعد للدفاع عن الوطن الاشتراكي، رافضين تمثيل دور الفرد الفخور ومؤكدين أن المعركة عمل جماعي. وصاغ البلاشفة شعارات المرحلة الجديدة التي خُطّت على الرايات الحمراء:
«تذكر من كنت، وعندئذ ستفهم ماذا ينتظرك إذا لم تنتصر! أنت جندي الثورة، وذلك يعني أن الثورة هي قائدك الأعلى! من أجل القضاء على الحرب، ينبغي القضاء على الذين يحتاجون الحرب، والأغنياء يحتاجون إليها».
«دعاؤك يتألف من أربع كلمات فقط: يا عمال العالم اتحدوا. وميثاقك العسكري يتألف من أربع كلمات أيضاً: السلام للأكواخ والحرب على القصور».