كذبة التفوق الغربي والدونية والتناقض الخلّاق
الوعي هو نتاج للظروف التي يعيش فيها الإنسان. هذا النتاج هو انعكاس غير مباشر للواقع الذي تتوسطه ممارسة الفرد وعلاقاته بهذه الظروف. فالدور الذي يقوم به الفرد مدفوعاً بحاجاته المتطورة دائماً، والتأثير الذي تمارسه الظروف من كوابح أو تسهيل للدور، هو الذي يحدد مضمون الوعي وبحدد علاقته (نسبة قربه من الموضوعية) بالواقع. هكذا أكد غرامشي على مفهوم فلسفة الممارسة تأكيداً على الجوهرالجدلي للمقولة الماركسية حول انعكاس الوعي.
التناقض والتطور
يكون التناقض (الصراع بين الفرد- وظروف وجوده) هو أساس غِنى التفاعل. فقدرة التناقض هي بالكشف عن العلاقات بين الظواهر من خلال التجريد والتعميم كما شدد فاسيلي دافيدوف (1930-1998) الباحث السوفييتي في علم النفس والتعليم ومنها الرياضيات خاصة. ومع كل تناقض يتعقّد مستوى الوعي ويتم توليف جديد أرقى لمكوناته. هذا ما أكده سوفييتي آخر هو مؤسس التيار الماركسي في علم النفس ليف فيغوتسكي مشدداً على أن النمو الذهني يجدد سببيّته بمدى الاضطرابات والصراعات التي يخوضها الفرد، حيث “في التماثل الموت والاختلاف حياة الزمان” كما عبر مهدي عامل.
هذا الاعتبار للتناقض في جوهر التطور يمكن إيجاده في كتابات ماركس وانجلز التاريخية، حيث اعتبرا مثلاً أن الشعوب القديمة ومع انتقالها من أماكن معتدلة إلى أماكن أكثر اختلافاً في المناخ (بارداً كان أم حاراً) نشأت لديها حاجات جديدة، وبالتالي تناقضات جديدة يجب حلها فتمكنت من تطوير قدراتها التكيفية وأنتجت أدواتاً ووسائل عيش جديدة. أما تلك التي استقرت في المناطق المعتدلة مناخياً لم تتطور قدراتها ومنتجاتها بذات القدر.
الإبداع الإنساني والتناقض
إذا رفضنا التصنيف الميكانيكي التاريخي للشعوب واعتبارها كتلاً تاريخية مطلقة، كان للشعوب وضمن مراحل تاريخية محددة تناقضات مختلفة لكي تحلّها، فتوسع الدولة الإسلامية فرض تطور العلوم بمختلف أشكالها، كما كان تطور علاقات الإنتاج الرأسمالية دافعاً للتطور اللاحق للعلوم في الغرب، ومن ثم انقطاع تطور شعوب العالم بعد إلحاقها قسراً بالمركز الغربي. والذي كان مجالاً لإبداع آخر ضمن حدة الصراع ضد الإمبريالية، حيث كان تعمق التناقض بمعناه الوجودي، وهو ما فرض الإنتاج والإبداع عند الشعوب. على هذا الأساس يكمن مثلاً اعتبار الأهمية التاريخية لأعمال أدبية وفنية كانت نتاجاً للصراع، كالمنتج الروائي والشعري والفكر السياسي في روسيا مثلاً في مراحل الصراع السياسي، والتقدم العلمي والعسكري خلال الثورة وبعدها مدفوعاً بالتناقض الوجودي للحفاظ على الدولة الاشتراكية وتطويرها. أليست الثورات عملاً إبداعياً؟
كذبة التفوق الغربي
لا تملك كذبة التفوق الغربي (الرأسمالي) إمكانية الصمود تاريخياً، وخصوصاً اليوم حيث إن التناقضات الموجودة لا يمكن حلها إلّا ضمن نموذج بديل للرأسمالية. هذه التناقضات (علاقات النهب العالمية وجوهر الإنتاج الرأسمالي الاستغلال) كونها عالمية يعني أن المجتمعات التي تتفاوت في تطورها هي في ذات الوقت متساوية في موقعها أمام التناقض وعلى المستوى نفسه ضمن علاقة التناقض. ومن هو قادر على حل هذه التناقضات ويعمل على حلها سيكون حكماً وريث المستوى السابق كله. وهنا تكون القوى الرجعية في الغرب والتي تجر معها مجتمعاتها نفسها معادية لتجاوز الرأسمالية كأساس للتناقضات العالمية، بينما تلك المجتمعات التي تقدر سياسياً على ذلك ستكون أكثر تقدماً تاريخياً. ألا يحاول الغرب اليوم مثلاً اللحاق بالصين في تسارع إنتاجها العلمي، أو يضعف محاولتها إعادة تركيب العالم اقتصادياً ودمج الدول في نموذج تعاوني بديل وهو ما يضعها في مقدمة المرحلة التاريخية اقتصاديا وسياسياً.ألا يحاول الغرب اللحاق بروسيا ويعترف بتقدمها العسكري عالمياً، ولكن الأهم هو إبداعها السياسي في حل التناقضات العالمية، وهو ما يضعها بالضرورة في المقدمة تاريخياً، وكل الشعوب التي تخوض معركة حل تناقضاتها ستتقدم إلى مسرح التاريخ كتجربة إنسانية “متفوّقة”.
المحرقة اليومية والتناقض
المستوى المباشر الآخر هو في المستوى الذي وصله نضج الوعي الشعبي في أماكن التوتر عالمياً. فبمقارنة عامة يمكن القول: إن الوعي السياسي وبالتالي مستوى التفكير الفردي هو أعلى عند الشعوب التي تعيش الصراع بأشكاله الحادة. ألا يقال مثلاً أن الأطفال الفلسطينيين يظهرون مستويات وعي متقدمة تتجاوز عمرهم الزمني. ألا يمكن ملاحظة بساطة وتبلد وجمود الوعي الفردي لدى القوى الاجتماعية غير المبالية بمجرى الأمور، أي: تلك التي لا تحمل هم حل القضايا المطروحة، فيتسطح وعيها نسبة لتطور الحياة. لذلك فليس الوجود في واقع متناقض وحده هو الذي ينقل الوعي إلى مستويات أرقى، مع أنه عامل أساس في تجهيز قاعدة لهذا التطور، ولكن تحديد التناقضات كما يقول “مايكل كوسوك” وحمل مهام حلها هو ما يشق طريق التقدم. ألم تكن مثلاً: معاناة غرامشي في طفولته (وكثيرون غيره) وتشوهه الجسدي هي التي أسست بذور مفكر عالمي من طرازه، وتحديداً حادثة سقوطه عن درج المنزل عندما كان في يد المربية، الحادثة التي عرّفت غرامشي على ذاته وعلى تمايزه كوجود، والذي علّق عليها غرامشي لاحقاً: “حينها أدركت أن لي جسداً”.
تبدد الكذبة
إن تبدد كذبة التفوق الغربي يسقط معه شعور الدونية وكره الذات الذي يروّج له وتعاني منه فعلياً قطاعات واسعة من شعوب الدول التابعة، وحتى ضمن المجتمع الغربي نفسه بين مختلف الأعراق أو الأصول. ويفتح الطريق بالمقابل لشعور بإمكانية صناعة التقدم.