أزمة الهوية والتقسيم وفيسبوك مثالاً
الهوية هي تلمّس الوعي لانعكاس وجود الفرد. حيث تشكل الهوية له ضرورة ومرجعية في السلوك والممارسة كفرد متمايز ضمن الوجود الاجتماعي وعلاقاته، كونها كهوية جزءاً من تعريف الوعي للعالم وللفرد نفسه، فتكون بذلك الجانب الفردي من هذا التعريف الأشمل والوجه المكثّف لدور حامل الهوية، فتعريف العالم والفرد لنفسه يتضمن بالضرورة نتيجته العملية التي يقتضيها، أي: دور وموقع الفرد في هذا العالم التي فرضها التعريف نفسه.
أزمة الهوية كوجه وجوه أزمة النظام الاجتماعي الرأسمالي
في واقع الانقسام الطبقي والفكر الرأسمالي السائد المكمّل له في هذه المرحلة، فإن معادلة الهوية يحكمها تناقض موضوعي، فالدور الفردي المرسوم على قياس علاقات الاستغلال الرأسمالية يكبح الدور الاجتماعي من جهة، ومن جهة أخرى لا يحمل الفكر السائد تصوراً صحيحاً عن هذا الواقع الاستغلالي، بل إن الليبرالية تقدّم عكسه في صيغة أوهام عن أهداف يتم تحميلها للأفراد. بدءاً من الأهداف الفردية الضيقة حول سعادة الفرد الممكنة الخاصة في عمله أو عائلته أو صداقاته وما هو مرتبط بالرفاهية الخاصة عادة، وصولاً إلى مقولات تحقيق الذات في شكلها الإنساني من خلال العلم أو العمل الإنساني وحتى السياسي، ولكن في حدود النظام القائم، فيأتي هذا العمل على شكل جمعيات مجمتع مدني غير حكومي ترتبط بجدول أعمال الغرب في الغالب.
أزمة الهوية كإطار لاستثمار مشاريع التقسيم والهيمنة
هذا التناقض بين الواقع التهميشي المغَرَّب الذي يفرغ الوجود من أية وضعية منتجة وأية علاقة إيجابية مع العالم من جهة، وبين الصورة اليبرالية الموهومة والمشوهة عن الواقع، وأي مِن الأهداف والأدوار الممكنة، والتي ترضي وجود الفرد من جهة أخرى، يجعل من أزمة الهوية في جوهر التناقضات التي يعيشها المجتمع الرأسمالي. هذا التناقض الذي يبقي الفرد المعاصر في سؤال عن ذاته وتعريفها، وفي انتقال عبثي من موقع لآخر ضمن حالة التجريب المستمرة، حتى كما يقال: “ليجد الإنسان نفسه”، علّه يقبض عليها. حالة الـ لا تعيين هذه تنتج التفكك الوجودي إضافة إلى تعمّق التناقض أكثر ما يجعل عملية السعي محمومة أكثر أيضاً، وبالتالي في حالة من التطرف أكثر كذلك. وهذا ما انعكس في مقولات صراع الحضارات، أو الهويات القاتلة مثلاً كتعبير عن الأزمة والنظر فيها من موقع الفكر السائد عامة.
وشكل انهيار التصور الليبرالي عن الحياة الذي تم تعميمه خلال العقود الماضية، مع انهيار النموذج الاقتصادي المؤسس له، دخلت معادلة الهوية في صراع حاد أمام بُطلان أسسها السابقة، فإما انكفأت إلى تصورات أدنى، والتي تعتبر أكثر أماناً في الواقع المنهار (العائلة، المنطقة، العشيرة ربما، أو الطائفة مثلاً، والحزبيةَ/ الجماعة كذلك) أو راحت إلى بُعدٍ عدمي، وبالتالي مأساة وجودية معلنة. هذا الواقع الذي تستثمر فيه الرأسمالية لتفعيل التناقضات الثانوية والوهمية غالباً على أساس أزمة البحث عن الهوية.
فيسبوك والفرز والتقسيم
هذا الشكل من البحث المحموم عن الهوية والفرز الحاد على أساس صراعات متناحرة محكومة بها، بمعزلٍ عن وعي ارتباطها بالدور، وتفسير العالم كما هو في صراعه وتناقضه الحالي، يتمظهر بقوة في مساحة وسائل التواصل الاجتماعي. حيث الهوية كشكل من أشكال تأكيد الذات، تشكل الصلة الأولية التي يرتبط بها الفرد ممارسياً مع وسيلة التواصل كفيسبوك بالتحديد. ولأنها هي نقطة الانطلاق تجرّ معها كل الدينامية التي تتحكم في السلوك على المنصة الإلكترونية، إن كان من حيث اختيار نوعية الأصدقاء أو كيفية تكتل المشاركين، فيكون “اليسار” مثلاً هوية أنتجت مجتمعها الخاص فيسبوكياً، أو غيرها كالمهتمين بموضوع رياضي ما أو فني ...
فينقلب الدور الاجتماعي المنتج من توسيع هامش الحركة والتواصل والتأثير إلى تضييقها، تحت معيار “التشابه والتقارب” مع “هويتي أنا” التي هي شكل “تحققي ووجودي أنا” انطلاقا من الهويات الممكنة التي عرضها عليّ الواقع الاجتماعي. وهذا ما يرفع من حدة الفرز في هكذا أطر نحو عزلة أكثر، وإدمان على هذه الأطر أكثر وأكثر، مما يجعلها سجوناً افتراضية لقاطنيها.
هذا الفرز هو في جوهره شكل من السياق الليبرالي في التقسيم والشرذمة، ولو اتخذ هنا هذا الشكل الموضوعي الذي يتحرك في ديناميته الخاصة.
ولكن على الرغم من الشكل السلبي ونتائج هذا البحث عن الهوية، فإن في الجوهر يكمن التناقض نفسه الخاص بالنموذج الاقتصادي الاجتماعي الثقافي السائد، أي: إعادة بناء العلاقات الاجتماعية ليتحول دور الفرد من تابع مستهلك مهمش في ظل الرأسمالية، إلى إيجابي منتج وضروري للمجمتع، فهويته عندها تصير الهوية الإنسانية الشاملة عندما يرتبط دوره بالمشروع الإنساني كله، أوسع من أية حدود ضيقة تخنق المبادرة والفعل. عندها يصنع الإنسان هويته بالممارسة وعن وعي، بما يتلائم مع الضرورات التي يمليها الواقع الموضوعي: بشرية تسعى لتجاوز النظام الرأسمالي وتجاوز مأساتها في آن.