أدبٌ جديد في زمن جديد: بريخت نموذجاً
بيرتولد بريخت هو شاعر ومسرحي ثوري ماركسي، فالمسرح الواقعي عنده أو كما سمّاه «الملحمي» هو أداة سياسية بامتياز، حيث التحريض والكشف عن الواقع وتناقضاته وإشراك المتفرجين (الجماهير) في سياق العرض أو الأداء نحو إشراكهم في عملية التغيير الشامل، الذي يتعارض مع التجييش العاطفي الرخيص في مسرحٍ شعبوي الطابع، الذي اعتبره «عملاً تعيساً... لدفع الزبائن إلى السخط أو الألم» حيث «العواطف.. عكرة وملوثة، عمومية وهلامية» وحيث المتفرجون «يحبون الجلوس في الظلام الذي يخفيهم» (من نص «مسرح العواطف» لبريخت).
في هكذا مسرح يدفع «خُبث الروح للطفو على السطح» لا يَطرُق العرض شكلاً ومضموناً التناقضات التي تعتمل في قلب الجماهير المتفرجة أو القارئة للنص الشعري، بينما عند بريخت المطلوب هو الكشف عنها وتعريتها وإحضارها إلى المسرح الفنيّ، ومنه إلى مسرح الأحداث حيث إن المسرح أداة نضالية ثقافية سياسية تشترك بالحدث التاريخي وتؤسس للتغيير، حتى يصح القول: أن بريخت هو مفجر التناقضات في المسرح والشعر.
فلسفة وسياسة
بريخت لم يقرأ الماركسية بالعين السياسية فقط، بل درسها كمنهج وكأداة تحليل فكانت حاضرة في الشكل والمضمون، ولهذا كان النص جدلياً في بنيته، وفي الشكل حاملاً مفاهيم الجدل والاقتصاد السياسي والاشتراكية والقوانين الفاعلة في البنية الاجتماعية والقراءة العلمية ومقولات التناقض، والجديد والقديم ودور الفرد والترابط بين الفردي والجماعي... وبريخت كان واعياً في منهجه هذا، فاللحظة المسرحية مثلاً لا «يجب أن تحجب (السابق) و(اللاحق)» فالصيرورة التاريخية لدى بريخت يجب أن تكون حاضرة في وقعنة الظاهرة/ العمل، حيث إن «المشاهد ليس جالساً في مسرحكم فقط بل كذلك في العالم» (من قصيدة «تصوير الماضي والحاضر في آن»). نص بريخت إذاً مجرّد وعام (من خلال إبراز القوانين والصيرورة في الحدث\العمل)، كما هو مرتبط باللحظة، ولكن في عموميتها (أي: النص في خصوصيته والحدث المتناوَل).
الجديد والقديم
انطلاقاً من أن بريخت مفجر التناقضات في مسرحه وشعره، وعلى أساس التجريد الفلسفي المادي التاريخي في عمله، يمكن القول: إن موقع إنتاجه لا ينتمي فقط إلى القديم التاريخي كما العديد من الأدب الثوري، والمقصود فيه حول توصيف المرحلة التاريخية والتي كانت فيها للإمبريالية السيطرة الأٌقدر والأوسع، بل هو ينتمي أيضاً إلى الجديد التاريخي حيث انفتاح الأفق التاريخي أمام قوى التغيير، وتراجع الاستعمار والنهب الشامل المادي والمعنوي.
فبريخت نفسه ولأنه يضع نصه في مستوى الصيرورة، وضمنها، فكأنه قد حماه من أن تطويه التحولات التاريخية وتجعله بائد العهد (بغض النظر عن صوابيته عندما تم تقديمه وقتها). في موضعة العمل تاريخياً وإظهار القوانين التي تحكم مضمون (ظاهرة وموضوع) العمل، كما العمل نفسه (أي: نقد عقل العمل نفسه من قبل صاحب العمل) يرتقي نص بريخت لكي يكون مستشرفاً للأفق التاريخي لا اللحظة الراهنة المنغلقة على نفسها فقط، وبهذا يهيئ النص لنفسه أن يقبله الجديد القادم تاريخياً حيث إن الجديد حاضر فيه قَبلياً. ففي نصه «البحث عن الجديد والقديم» يشدد بريخت على أن القديم حافل دائماً بالجديد، والجديد هذا هو الجانب الصراعي من القديم، الذي لا يوجد فقط في البنية ككل، بل في الأشخاص الفردية أيضاً، «فافحصوا كل مشاعر وأفعال شخوصكم بحثاً عن السّمات الجديدة والقديمة»، حيث إن «يأس الفتاة الخرساء تجاه الحرب ينتمي إلى الجديد» أما «آمال التاجرة» فيعتبر قاتلاً وينتمي بالضرورة إلى القديم.
في معالجة بريخت للتناقض بين القديم والجديد يؤسس للأزمنة القادمة ولانفتاح الأفق لأنه يحمل قوانين حركة الصراع الطبقي في تقدمها وتراجعها، حيث إن التناقضات الدائمة هي التي ستحمل ذكرى التاريخ المنقضي وتظهره من جديد لاحقاً حيث «إن الجوع والبرد سيشيران إلى الدرس...والجروح التي لم تلتئم بعد، ستذكّرهم بالقتلى» (من قصيدة «في أوقات الاضطهاد البالغ»)، ويُظهر أيضاً ملامح الصراع الفردي الذي يحمل الفيروس الليبرالي المنفجر اليوم والذي يشكل حاضنةً للقديم، أي: الإمبريالية وكل ما تمثله من كبحٍ للتقدم، على مستوى الثقافة والمعاني والسلوك. وهذه المواجهة بين القديم والجديد بالنسبة لنص بريخت هي: أن يكون الوعي أميناً للتناقض لا هارباً منه كمن «يغوصون بلا حيلة في المستنقع» الذي عادة «ما يستغرق أسابيع.... وفوق الوجه الغائص ابتسامة شبحية هائنة» (من قصيدة «المستنقع»). هو مستنقع الوهم الليبرالي، والهدوء الواهم كذلك، فمواجهة العدم تؤسس للامتلاء والفعل، ولا تكون في صالح العدم نفسه، فعندما «أنغَمِسُ بالبرودة أصبح ساخناً من جديد... حين أكون قد بقيت مع العدم أعلم ثانية ماذا أفعل» (من قصيدة «حين أغرق مبكراً في الخواء»). هذا الصراع مع العدم في نص بريخت هو نفسه منتج الحياة واللاعدم، وبهذا يقع بريخت في موقع الجديد التاريخي اليوم، حيث إن الثقافة السائدة تحاول تعميم العدمية تعبيراً عن أزمتها، ويتنفس نص بريخت من هذا الجديد لأنه يطاله مبكراً، وفيه يعلن أن السخيف هو من يحيد النظر عن تناقضاته، أي: يركن للثابت خوفاً من التحولات ويبحث عن الطمأنينة الطفولية، فهو «رائع ما لا تحوله النار الجميلة إلى رمادٍ بارد!» الرائع هو المتأجج دون أن تأكله النار حسب تعبيره، أي: المتعامل مع التناقضات دون أن تقضي عليه، وفي هروبه منها تكون قد «محت ملامحه».
هكذا يكون بريخت منتمياً إلى الجديد التاريخي، فالعام في المرحلة الراهنة (الأفق المفتوح للتغيير والوفاء للتناقض الحاكم كل الحركة) حاضرٌ في نصّه، واستجابة لمسألة: أن أدباً جديداً في المرحلة الجديدة ضروي يكون بريخت مؤشراً على هكذا أدب صراعيّ جدليّ حيث يعلن أن «ابتهجوا بالجديد، واخجلوا من القديم» (من قصيدة «البحث عن الجديد والقديم») ومطلوب إغناؤه بكل التناقضات الفردية والجماعية المنفجرة راهناً.