من هو الباحث في التراث الإسلامي؟
في مقاله المعنون «كيف نقف من التراث الإسلامي؟» والتي نشرت في مجلة «مواقف» في تشرين الأول من العام 1970، يقدم الباحث المعروف هادي العلوي وجهة نظر حول مصالح الباحثين في دراسة التراث الإسلامي وتناقضها مع المصالح الطبقية للطبقة السائدة أو توافقها وكيف يجب أن يكون عمل الباحث نزيها بعيداً عن مصالح من يسود، فيقول:
يشمل تعبير التراث الإسلامي حصيلة النشاط الاجتماعي والفكري للمسلمين، المنتجة طوال الحقب الممتدة بين بعثة النبي محمد ونهاية عصر الحضارة الإسلامية. رغم عدم اتفاق الباحثين على الزمن الذي استقرت فيه تلك النهاية.
يتمتع التراث الإسلامي بسلطان_ رسمي وشعبي_ بوأه مكانة خاصة بين تراث الحضارات القديمة. وقد ترتب على ذلك خضوع دراسته للرقابة الحكومية، وصار على الباحث أن يتوقع الاستجواب عن أية وجهة نظر قد لا تعجب جهاز الشرطة. ومن هنا شاع مبدأ التقية في دراسة تاريخ الإسلام حتى أصبح مادة معترفاً بها في أي منهج للبحث. وقد يكون لهذا الوضع أثر في قلة عدد الباحثين العلميين، على أنه في المقابل قد هيّأ لنسبة كبيرة من الكتاب أن يتبوأوا عرش الدراسات الإسلامية بمناهج تعكس الامتثال الطوعي لعواطف الجمهور ومخططات السلطة.
إن تزييف التاريخ حرفة تمارسها الطبقات السائدة في مراحل تخلفها وجمودها. وليس في وسع هذه الطبقات وهي تواجه حركة التاريخ المنطقية المتطابقة مع قانون الضرورة، أن تنظر إلى الوقائع في وضعها الصحيح لأن ذلك يقتضيها أن تتخلى عن مواقعها، عن وجودها اللاشرعي في مجتمع يرفضها.
إن مصلحة هذه الطبقات تتعارض باستمرار مع الحقيقة الموضوعية، وفي ظل هذا التعارض ترعرعت شتى التفسيرات المثالية وفُسح للتزييف المتعمد مجال أوسع.
وتبرز هنا مسألة الوضع الاجتماعي للباحث. إن أحداث الحياة قد كشفت عن ارتباط متين يشد الكثير من الباحثين الرسميين أو الدعاة الدينيين إلى مصالح اجتماعية تملي عليهم السير وفق المنهج الذي اختاروه. وسواء كان القصد أو الوعي متوفرين أم لا، فإن النتائج التي يعطيها مثل ذلك المنهج لا بدّ من أن تتطابق في النهاية مع الارتباطات التي يرجعون إليها. على أن الباحث في الجانب المقابل ليس بريئاً من الارتباط. إن مثل هذا الإنسان لم يخلق بعد! ولكن هناك ما يحمل على الافتراض بأن أيديولوجية تنهض من مواقع تقدمية، وتتصل بمتطلبات عصر صاعد متجدد، لا يمكن أن تشكل حاجزاً يحول دون الرؤية السليمة لحقائق التاريخ. وهو افتراض يسمح_ مبدئياً_ بأن نمنح هذا الفريق من الباحثين شيئاً من الثقة. أما عملياً فإن التجربة المتحصلة حتى الآن لا تبرر هذا الرجاء، ولذلك يظل من الأفضل أن ينتج نحو تأكيد لمنهج أكثر صرامة. ولن يتم هذا بغير التخلص من التأثيرات التي تفرضها العقيدة على مجالات البحث سلباً أو إيجاباً، ووضع الحضارة الإسلامية على قدم المساواة مع الحضارات القديمة التي انتهت بانتهاء مرحلتها التاريخية...
وهكذا فلكي يدرس تاريخ الإسلام بموضوعية كافية يجب توفر طقس معتدل يحافظ فيه الباحث على هدوئه وذلك بالتخلي عمّا يحتمل أن يربطه من تعاطف مع الظواهر المدروسة. وإذا كان هذا المطلب عسيراً على المؤمنين فهو بالنسبة لكاتب لا ديني لا يعني أكثر من تحصين نفسه ضد ردود الفعل. ويمكنني أن أفترض بناءً على ذلك: أن تجاهل الامتدادات الروحية والفكرية المعاصرة للحضارة الإسلامية ودراستها في إطار مرحلتها الخاصة سيوفر للباحثين فرصاً من النزاهة لم تتوفر لأكثرهم حتى اليوم.
وقد يفرض تحقيق هذا المطلب أن نستبعد من ميدان البحث العلمي ما قدمته وتقدمه المناهج السابقة من ثمرات للمكتبة الإسلامية، وهي تشمل:
1_ ما يكتب تحت شعار العودة إلى أحكام الإسلام ومن بينها مشروعات التوفيق أو المعارضة بين الإسلام ومبادئ العصر.
2_ الكتابات التي يتراشق بها أتباع الطوائف الدينية في مجرى الصراع الدائر بينهم: دفاعاً عن عقائدهم أو تفنيداً لعقائد خصومهم.
3_نتاجات أجهزة الإعلام الرسمية وما تنشره باسم بعث التراث مستخدمة بهذا الغرض من يسير في ركابها من الباحثين.
4_ الموضوعات التي تنشر، تحت وطأة الغرور القومي، بقصد المفاخرة والتغني بأمجاد العرب والإسلام. ومنها أكثر المؤلفات للتعليم المدرسي.
5_ المباحث التي تكتب لأغراض سياسية، رجعية أو تقدمية. بما في ذلك ما يأتي انعكاساً للسخط الناجم عن إقحام الإسلام في قضايانا الراهنة، وما هو نتاج التعصب للعرب والمسلمين أو عليهم مهما يكن السبب الباعث له. على أن هذا لا يعني تحريم البحث عن مواقع في التراث تستند إليها مطالب ذات مغزى ثوري وتقدمي تعزيزاً للمطلب أو ترسيخاً له في أوساط الجمهور.
ومن ذلك مثلاً: الدعوة إلى تأميم الأرض استناداً إلى ما فعله عمر بن الخطاب في إقليم السواد- العراق- وغيره من بلاد الإسلام حين جعلها وقفاً عاماً وحرم تملكها على الأفراد. ثم أن دراسة العناصر التقدمية في التراث يمكن أن تكتسب وضعاً أكاديمياً إذا هي استندت إلى فهم جيد للنصوص، وقامت على مراعاة الحدود الدقيقة للمصطلحات التاريخية، وقد تعسف مكسيم رودنسون فأغلق هذا الباب بينما تتيح التجارب التي خاضتها الشعوب الإسلامية في عصور ازدهار الحضارة مجالاً كافياً للخوض في مطالب كهذه، بفضل اتساعها وتنوعها.
إن هذه الآثار هي كما قلت من ثمرات الاعتراف بوجود الحضارة الإسلامية في المجتمع الحاضر، وقد أساءت إلى تاريخ هذه الحضارة وسببت له البلبلة. وحين نقدم على إلغاء هذا الوجود فمن المنطقي أن نرفض آثاره، وأن نترك البديل العلمي يأخذ مكانه منتقلاً بالتراث من معترك الصراع الاجتماعي أو السياسي إلى معاهد البحوث، هنا حيث يغدو بالإمكان تحويل الإسلام إلى مشكلة علمية تدرس وتفسر باستخدام أدوات البحث التاريخي، من غير أن تُقسر على الخضوع لمتطلبات أيّ موقف اجتماعي.