«دسّ السّم في العسل»
ضمن الصراع الاجتماعي السياسي الاقتصادي الأيديولوجي، يمتاز حقل الممارسة الأيديولوجية للفكر الرأسمالي بتنوع أشكاله، فإلى جانب القمع المباشر للفكر النقيض يقوم الفكر الرأسمالي بتمويه ممارسته لتحقيق الدور نفسه، أي: التعمية على الواقع وحركته.
من أشكال هذا التمويه في مواجهة الماركسية هناك: التحريفية، أي: حضور الفكر الذي طالما واجهته الماركسية بلبوس ماركسي، من أجل لعب دوره السابق بعد أن هزم في شكله السابق، فتحضر التيارات الليبرالية والبورجوازية من خلال تخفيها ضمن الماركسية، ولكن كتيار تحريفي كما وصفها إنجلز.
إضافة إلى تياري القمع المباشر، والتحريف، كوجهين لعملة الفكر الرأسمالي، يمكن لهذا الأخير أن يحضر بأشكال أقل تماسكاً، أو أقل تمذهباً، حيث لا تعبر الطروحات هذه عن بنية فكرية متبلورة شكلاً، بل تحضر بطروحات منفصلة، تجد أرضيتها بالفكر الرأسمالي نفسه كفكر تعمية عن الواقع وتشويه للصراع.
التجريد والتعميم
هذا الطرح المفكك للأفكار التحريفية، أو المثالية، يمتاز بالتجريد والتعميم كأداة لتحقيق غايته التحريفية والتشويهية القمعية في ذات الوقت. التجريد والتعميم أسلوب يصعّب قضية تفكيك المقولات وتأريضها، وليس اليوم مفهوم «الاقتباس» الذي يظهر في وسائل التواصل الجماهيرية إلا تعبيراً عن هذه الممارسة، التي تتهرب من السياق التاريخي، لكي تضع الفكرة بشكل مطلق خارج الزمان والمكان، وهكذا عند تبنّيها تصبح تعليباً للواقع، وتلغي حركة المجتمع وتناقضاته، مثال: المقولات عن الإنسانية ككل، أو البشرية ككل، وكأنها تشكل وحدة خالصة لا تصارع فيها، أو الكلام عن السلطة بالمطلق في أي زمان ومكان، أو الكلام عن العنف بالمطلق، أو الحب بالمطلق، أو الجمال بالمطلق.
التمرد
إلى جانب وسيلة التجريد والتعميم، يمتاز هذا الشكل من التحريف الفكري ذا الوظيفة الأيديولوجية بمظهر التمرد، فلكي يمر الفكر إلى الطبقات المتضررة والتي تحمل بالضرورة نزوعاً تمردياً على الواقع عامة، يجب عليه أن يطل بشكل متناسب مع نزوعها النفسي الاجتماعي، فيلغي احتمالية الرفض من قبلها. ولهذا مثلاً: يمكن لهذا الفكر أن يكون تمردياً على السلطة، ولكنه في الوقت ذاته يعبر عن أفكار تيارات التحريف التي طالما واجهها التيار المادي التاريخي، ولكن هنا تظهر بأشكال مفككة عن بعضها ولا تعلن نفسها أنها تيار أساساً. هذا الإخفاء هو تحقيق لوظيفة أخرى قد تكون وجها آخر لعملة «اللاحزبية» أو «اللا تَحَزُّب» الذي طالما نادت به الليبرالية في محاولة لتشويه صورة العمل الحزبي، ولإظهاره بالشكل «الخشبي». هكذا يتحول التمرد إلى ظاهرة فردية ذاتية خالصة، فيكون «البطل» الفردي و«الثائر» الفردي تعبيراً عن الفردية الليبرالية نفسها.
التجريد والتعميم والتمرد واللاهوية، يمكن أن يكون من معالم التيار التحريفي الخفي، فهي تحقق وظائف في الشكل والمضمون، فلكي يكون مقبولاً عند القوى الرافضة للواقع، يتسلل إليها من باب التمرد، ويخفي هويته «كلا حزبي» ثانياً فيسقط احتمالات رفضه المتبقية، ويحقق وظيفة «فردنة» الصراع، ومن خلال التعميم والتجريد يخرج الفكر من واقعه التاريخي ويصبغه بحالة من العدمية.
ثلاثية العلم_ الإلحاد_ الجهل
عبر هذه الثلاثية يمكن لهذا التيار الظهور لتضخيم كل ما هو علمي، وذلك عبر تفريغ العلم من ملامحه الأيديولوجية، فيصير كل
«علم» علماً ثورياً، ضد الجهل، فمثال الصفحات الفيسبوكية والمجلات والدعاية والإعلان التي تعطي نفسها صفة العلم بالمطلق (كتعبير عن التجريد والتعميم للتخفي)، تقدم كل أشكال الأفكار المثالية في لبوس علمي، كالدراسات عن وراثة صفات الذكاء من الأم وليس من الأب (دراسة منشورة على موقع جريدة «الإندبندنت» على فيسبوك الأسبوع الماضي) أو دور الجينات في الذكاء (كتعبير عن التيار العنصري الاجتماعي)، أو الدراسات حول السعادة والحزن وغيرها، بمعزل عن الأصل الاجتماعي للنظام ككل (كتعبير عن التيار التفكيكي).
هذا الظهور يأتي في مرحلة تاريخية يعاني فيها العالم من عودة الفاشية الجديدة بأشكال متطرفة، دينية أو قومية، فيكون «العلم» رداً على النقمة التي ولّدتها هذه التيارات الرجعية المباشرة المعادية للعلم والتقدم، وهكذا يكون قبول العلم ضد الجهل أسهل (أي: صفة التمرد للتخفي أيضاً)، وخصوصاً في دولنا التي يعاني فيها العلم من تراجعٍ وغيابٍ بسبب الطبيعة الاقتصادية التبعية غالباً للإمبريالية، أو التراجع عن الاقتصاد الوطني مع الوقت. هذا يترافق مع تعظيم دور العلم في الغرب، وكأن الغرب أخذ خياراً فردياً بالعلوم، غير معزول عن السياق التاريخي لتوظيف العلوم فيه أو كونه طرفاً مسيطراً. إذاً، الرسالة تصير: أن كل فكر بلبوس «علمي» هو تقدمي، والغرب ينتج العلوم، ومن هنا تقدمه ومجتمعاتنا متخلفة بسبب عدم تبنيها العلوم، أو «الجهل الطبيعي» الذي نعانيه كشعوب بالمطلق (التجريد والتعميم). وهكذا يتم تضمين كل الأفكار المعادية تحت شعار العلم، مع أن العلم كغيره خاضع للصراع الفكري وغير منزّهٍ، حول المجتمع والتاريخ والإنسان والاستغلال والسعادة والحزن والعنف والسلم والكون والمادة والزمن والوعي، كلها قضايا يمكن تشويه الموقف منها بلبوس علمي.
تستكمل ثلاثية العلم_ الجهل_ بعامل الإلحاد، فرفع قبول الطروحات «العلمية» بالمطلق هو موضعتها في موقع الإلحاد، ضد الإيمان، بتحقيق ذلك يتم تعزيز الثنائيات الوهمية في المجتمع، وتقسيم القوى الاجتماعية على أسس وهمية من أجل حرف الصراع ورفع حدة الانقسامات.
مثال: العلم_ الجهل_ الإلحاد يتجلى فيه التيار التحريفي الخفي الذي أكثر ما يطال القوى الاجتماعية المتقدمة، والتي يمكن لها أن تلعب دوراً فاعلاً في المجتمع، فيتم تعميم أفكار تخدم بقاء الفكر الرسمي السائد ونظامه، عبر «دسّ السّم بالعسل».