جمال التناقض ضد القبح المُعَمَّم
الجمال كشكل من الوعي الاجتماعي يوجود في مظاهر الحياة كافة، ومحكوم بالظروف التاريخية المختلفة، وإن كانت المرحلة الراهنة تحمل فيها القبائح في كل مكان، نتيجة لسيادة الفكر الرأسمالي والمفاهيم الليبرالية المشوَهة الحياة كلها، الفردية والاجتماعية_ السياسية، ولكن هذا القبح يوجود مع نقيضه، أي الجمال، وإن كان الأخير مغيّباً ومدفوناً تحت أطنان الدعاية والكذب والإعلانات اليومية وملايين المواد الاستهلاكية.
التناقض موطن الجمال
انطلاقا من الصراع الاجتماعي الطبقي الحاكم لجميع مظاهر الحياة الاجتماعية، فإن الرأسمالية كنظام سائد معمم لجميع القبائح البيئية والأخلاقية والاقتصادية...فإن النقيض المواجه يحمل فيه ملامح جمال بالضرورة، وهكذا يكمن جمال صورة تظهر جمعاً غاضباً من المتضطهدين مثلاً، أو قصيدة عن الصراع وقبائح نتائجه، أو مسرحيةً أو لوحةً أو أغنيةً تنقل الواقع المادي الحقيقي فنياً، أو كتاباً علمياً يناقش قباحة العلم الرسمي وتوظيفه، أو ممارسة اجتماعية تناقض قيم الوهم الليبرالي ومفاهيمه، أو حركة سياسية تغييرية للقائم... ذلك كله وانطلاقاً من تناقضه مع القبح السائد، يقدم بشكل ما جمالاً بالضرورة، وإن كان مطموساً اليوم بفعل التشوهات والقيم السائدة.
العالم لم يكن بهذا القبح في كل المراحل
يمكن العودة إلى مراحل الصراع المشتد ما بين النقيضين السياسيين في المرحلة التاريخية الراهنة، أي الرأسمالية والاشتراكية، لنجد فيها مظاهر الجمال السياسي في وجه القبح السياسي المعمم، والمراد تعميمه لصبغ «السياسية» عامة بلوثَةٍ لإخافة الناس بمضمون «السياسة هي فن الكذب»(هي كذلك فعلاً، ولكن تلك هي ممارسة الرأسمالية).
من مظاهر الجمال السياسي: هي لوحات محفوظة في الكتب أو المتاحف أو القصص المرويّة، ولكن المكثّف منها يحضر في مراحل التضحية والحرب العسكرية الدفاعية أو الثورية التغييرية، التي خاضتها القوى الاشتراكية خلال القرن الماضي.
الجمال ضد قبح الحرب
في المتحف الذي يخلّد ضحايا المجزرة اليابانية التي حصلت في مدينة نانجينغ، العاصمة السابقة للصين، في العام 1937 واستمرت حوالي ثمانية عشر يوماً، وراح ضحيتها حوالي 300 ألف ضحية، وذلك في مدينة واحدة فقط، من مدن الصين التي نفذ فيها اليابانيون مئات المجازر في سياق غزوهم للصين، فيما سبق الحرب العالمية الثانية. المتحف الذي يقع على مساحة كبيرة فوق الأرض وتحتها، مخلداً ذكرى الضحايا، ومظهراً بشاعة المجزرة اليابانية، تظهر أيضاً في بعض منه صور تخلد أفراداً غير صينيين بقوا في المدينة ورفضوا الخروج، وذلك للمساهمة في أعمال الغوث ربما، ومساعدة المصابين، ومنهم أطباء وصحفيون يحملون جنسيات مختلفة. وذلك مثال الألماني الذي استغل جنسيته الالمانية لحماية الهاربين من المجازر، وبسبب لوضع المانيا واليابان الحليفين وقتها.
المعرض كتخليد لذكرى المجزرة، يحمل جمال التناقض إياه، حيث صور الآلاف من الضحايا المعلقة على جدران القاعات، تَشخص بالزوار، بكل ما تحمله من عذابات وموت، ولكنها تحمل أيضاً فكرة حفظ التاريخ من أجل عدم نسيان الآلام تلك، وبالتالي حفر الذاكرة، في شكل من الصراع ضد الموت، وبهذا التناقض: صراع فكرة الحياة ضد الموت ومحو الذاكرة، وهنا يكمن جمال المعرض.
شكل آخر من الجمال، وعلى إحدى جدران قاعات المعرض الكثيرة، تُخّلِّد لوحة كبيرة ذكرى أفراد ، متطوعين مقاتلين ، تعلوها صورهم. كان هؤلاء هم الطيارون السوفيات الذين خاضوا المعارك الجوية دفاعاً عن المدينة لدعم المقاومة الصينية وقتها. وإحدى الصور تظهر أول طيار سوفياتي سقط فوق سماء المدينة في إحدى المعارك الجوية، وهو نجدانوف نيكولا نيكيفوروفيتش، والذي كان وقتها بعمر 24 عاما.
هذه اللوحات تكثّف الجمال ضد الحرب وبها، فالتناقض القائم بين وحشية المستعمر من جهة، وبين بطولة الأخوّة الإنسانية من جهة أخرى، والتناقض بين القتل والتدمير من جهة، وبين الصراع والمقاومة من أجل الحياة والتطور من جهة أخرى، هي المعنى الحامل لهذا الجمال ضد قباحة حروب الغزاة من أجل السيطرة والربح والهروب من أزماتهم. لوحة البطولة الإنسانية التي جسدها الطيارون السوفيات (الذين قاتلوا فوق سمائنا كذلك) جسدها المقاومون العرب في الحروب ضد العدو الصهيوني، على أراضي سورية ولبنان وفلسطين، وجسدها أيضاً المقاتلون الكوبيون في أفريقيا وغيرها من دول أمريكا اللاتينية. وهي لا تزال تتجسد بغير شكل وغير بلد.
العالم يحمل في كل آن في أحشائه معالم هذا الجمال، ضد قبح النظام الرأسمالي الطبقي عامة. فالعالم لم يكن قبيحاً دوماً، ولن يستمر على حالة القبح المُعمَّم نفسها، إنه جمال التناقض الخالق لكل جديد ضد موت القديم .