العلم السائد واللغة والتفكيك؟
ما كان غريباً على الوعي العام منذ بضعة سنوات سابقة، أصبح الآن ينتصب ثابتاً أمام العين، العين التي قد تعاند الحقائق لبرهة لسببين أساسيين: إما لقوة العادة ورسوخها في الوعي، حول أن العالم كما أرادته الرأسمالية أن يبدو هو ثابت، باقٍ، أبدي ما بقيت الأرض تدور.
وإما لسبب آخر هو: تعارض مصالح الفئة المعاندة مع الحقائق العنيدة، الحقائق التي هي ليست إلا العالم كما هو، في قواه الدافعة المحركة للتاريخ.
ولكن وبقوة الحقائق العنيدة نفسها لم يعد العناد نافعاً، كونه يخرج فيما يحمله من ملامح من دائرة الأحداث، فصار غريباً عن المشهد وتسارعه.
لم توفر العديد من المقالات والأبحاث هذا التناقض الذي يحكم العالم الرأسمالي، في فكره وممارسته و»ثقافته السائدة»، ولكن ولأن الوجه الآخر من العناد هو المراوغة، الحيلة، أو الاحتيال، الذي يمتاز به الفكر الذي يقابل وجه موته المحتوم، فلا بد من الفكر النقيض الساعي للتغيير، أن يحضر في يقظةٍ، لكي يعرّي محاولات التسلل التي يحاول الفكر السائد نفسه أن يمارسها، لكي يؤخر التراجع، ويطيل الأزمة، ويرمي قنابل دخانية قد تمده بأدوات بقاء مؤقتة، لم يعد يملك غيرها في محاولاته لكبح التراجع.
الفكري_ الثقافي_ العلمي كـ«ملجأ مَرِن»
إذا كان الفضاء الاقتصادي_ السياسي (العسكري) يضيق أمام رأس المال المتوحش، فللفضاء الفكري_ الثقافي مرونة أكثر، يمتاز بها في المراوغة. لهذا أسباب عدة منها: أنّ الفكر النقيض المتمثل بثقافة اشتراكية علمية وأفكارها شهد تراجعات لعدة عقود، إضافة إلى سوسة الليبرالية التي نخرت في منصاته المختلفة، هذا على المستوى الفوقي.
أما في البنية الاجتماعية، فالحاجات الاجتماعية، وتشابك المادي والمعنوي في وعي الأفراد وتصورهم عن الحياة التي يطمحون، لا زالت الليبرالية وبالرغم من الوهم الذي تقدمه، والتناقضات التي تحكمها، لا زالت تقدم خطاباً يدغدغ العقل الفردي بخبث، دون أن ننفي أن ذلك أصبح أكثر انكشافاً أمام الملايين، وبسبب الانهيارات التي يشهدها الواقع الاجتماعي ككل، مما يفقد الطروحات الليبرالية قوتها وزخمها، ولكن يبقى ذلك نسبيّاً.
لهذه الأسباب، إذاً لا زال لعقل رأس المال أماكن يتجول فيها، يناور، ويستمر بالوظيفة التي أتقنها ولا يتقن غيرها: الهدم، ثم الهدم. ولهذا على الفكر النقيض التغييري الجذري أن يواجه بشراسة في الميدان الثقافي الفكري، حيث يهرب الفكر السائد الرجعي إليه، في حين يحرم شيئاً فشيئاً من سيطرته السياسية والاقتصادية. ولهذه المواجهة أهميتها المكملة، فحرمانه من مجال تنفسه “الروحي» يسرع من عملية دفنه، ويساهم في الجانب الأهم، في بلورة عناصر ولادة المجتمع الجديد في فكره وثقافته التي لا تفصل بين الفردي والجماعي، فالفرد يتحقق ضمن المجموعة، قيمته من تقدمها وإنتاجه يصب فيها، فالإنسان هو تاريخي بحاجاته، لا يتحقق إلا ضمن متطلبات المجتمع الذي هو فيه، أي: متطلبات تقدم وتطور البشرية ككل، في التحامها مع الطبيعة.
العلم السائد
وحماية العالم القديم
اللغة أداة تواصل، ترميزاً وإشارةً، وهي في يد الرجعية وإيديولوجيا التعمية تكون أداة تعميةٍ وطمسٍ وهروبٍ. والعلم السائد أكثر ما يميزه اليوم هو: لغته التي بها يصمت عما يجب أن يتم النطق به، عن موضوع العلم نفسه، أي: الواقع التاريخي المعين. فبالرغم من ملايين الأوراق والكتّاب كل عام، أو مئات الملايين، يمكن تكثيف خطابها بجملة واحدة رددها “لينين» مرة: «لقد تكلم الرفيق مطولاً، حتى لا يقول شيئاً»
الأزمة التي يعيشها العالم، هي بؤرة التركيز التي على أي بحث علمي أن يقوم بتناولها، مهما اختلف مجال البحث، الطب والأمراض، علم النفس والشخصية والوعي، الصحة النفسية والعقلية، البيئة والطاقة، الموارد وتوزيعها، الابتكار والتكنولوجيا ومصيرها، الاقتصاد وأزماته، السكن والنقل، التعليم والتربية..
أليست هذه من مواضيع العلوم؟!ولكن كيف لها أن تفصلها عمّا يحدث حولنا؟ كيف لها أن تفككها وتفصلها بشكل اعتباطي مؤلم؟
العلم السائد اليوم يعالج “كل شيء» ولا يحاول أن يعالج شيئاً، والأسباب لا تنفصل عن السببين، حول العناد اللذين ذكرا أعلاه: إما لمصالح متعارضة مع المعالجة العلمية الصحيحة، في ربط كل ظاهرة اجتماعية في البنية التي تعيش فيها، أو لسبب رواسب المناهج التفكيكية والتجريبية في العلوم التي طغت في المرحلة الماضية.
ملامح العلم الجديد؟
العالم الجديد، لا بد له من الاستعاضة عن المناهج التفكيكية والتجريبية التي طغت في المرحلة الماضية من عقل رأسمال، وفي جور الجديد، مهمة بناء العالم الجديد، الإنسان والطبيعة، العقل والجسد، الفرد والمجتمع.
المواجهة في الحقل العلمي_ الثقافي_ الفكري فيها من الدقة والأهمية لا أقل من المواجهة الاقتصادية السياسية، فالعين عليها أن تتقدم على القدم واليد، وإلّا تاهت في المساحة المظلمة.