تشكيلي من سورية يُلوّن بخيوط الشمس

تشكيلي من سورية يُلوّن بخيوط الشمس

(من يترك حرفاً على الآجر , يتألق مثل الشمس)
حمورابي

1

الكتابة عن التشكيلي السوري سمير حميدي تحتاج إلى جنوح خيال متحرر من القيود جميعها, كحال ذلك الطائر الحرّ الأزرق البديع الذي فرَّ من لوحة مدهشة، تمثِّل مشهد تنصيب الملك (زمري- ليم) والتي ازدانت بها قاعات القصر الملكي في مدينة ماري على الفرات الأوسط, حيث يُعدُّ هذا المشهد وثيقة فريدة في تاريخ الفن في وادي الرافدين. شعور الدهشة هذا يتلبَّسك وأنت تشاهد “صنوبريات» سمير حميدي المرسومة بحرفية فنان عالمي مغمور, هو شعورك ذاته الذي ينتابك دوماً عندما تشاهد أعمال رسام ذي موهبة هائلة، مدعمة في الوقت ذاته بخزان معرفي لا ينضب, رامبرانت مثلاً. وزادت دهشتي في مدينة أزمير على شاطئ بحر إيجة وأنا أمعن النظر في جذوع أشجار الصنوبر في حدائق المدينة العصرية، حيث تنعكس خيوط الشمس على جذوع هذه الأشجار الباسقات، فترى ضربات سكين سمير حميدي وكأنك في مرسمه تماماً. الدهشة هذه تمثل لي سؤالاً لطالما كان مثار متعة لي, وقد عملت لوحات سمير حميدي على جعل ذلك السؤال مدار مقاربة فنية رائعة وعلى نحو مشرق. ما السرُّ وراء هذا السحر والإدهاش اللوني الباذخ والباهر؟ ما سرُّ انشراح الصدر الذي يغمر المرء وهو يشاهد لوحات الحبر الصيني التي يًبدع فيها سمير حميدي, وتذكَّر، هي بالحبر الصيني الأسود, هل لتتناغم مع أيامنا العجاف هذه؟ ما السرُّ هنا؟ يجاذب نفسي, دوماً, شعور غريب, فيما أنا أفكر في تلك الهبة العظيمة التي مُنحت لنا, الموهبة. هل يكمن السرّ هنا؟ أم يكمن فيما كتبه رامبرانت في يومياته 3 أيار 1661:(عيناني تؤلمانني هذا المساء, عليَّ أن أتوقف عن العمل. عليهما غشاوة والألوان تختلط . تمرّ عليَّ أيام أخاف فيها من العمى, ليالٍ أحلم به, فاستيقظ مرتجفاً, عالية ضربات قلبي. مع ذلك, حتى لو عميت, سأظلُّ أرسم. أنا أعرف الألوان من رائحتها. أصابعي تعرفها أيضاً. الألوان بعض مني, هي بعض مكونات داخلي) وأكاد أقول: سمير حميدي من طينة رامبرانت. وأفرح لأنه من مدينتي وأستطيع أن أقول له أسعد الله أوقاتك بكلِّ خير يا سمير. 

2

في بداية سبعينيات القرن العشرين كان سمير حميدي ولداً يلعب مع الصبيان في أرض الحارة القديمة في مدينة إدلب في الشمال السوري، عندما مرَّ سائق حافلة ركاب كبيرة تسير على خط إدلب دمشق، يسأل عن خطاط, أشار له الصبيان نحو زميلهم في اللعب. نظر سائق الحافلة ملياً في وجه الولد, ثُمَّ قال: ماذا يلزمك من أدوات, قال: فرشاة وعلبة دهان. وراحت أنامل الولد تنطق فصاحة عن حروف وكلمات غاية في الروعة والإتقان, يخطها وكأنه ينسخ من كتاب مفتوح. ذُهل رجل الحافلة من هذا الخطاط الصغير، ونقده خمس ليرات سورية بعد أن أنهى عمله, وكانت في تلك الأيام مبلغاً محترماً. عندها أدرك سمير حميدي ما فعله, فانكب على أقلامه وأوراقه بصبر وروية. وهنا أعود إلى ما كتبه الرسام الهولندي رامبرانت في يومياته والتي صدرت حديثاً عن دار المدى للثقافة والنشر حيث قال في 27 أيار 1661:(إن جاءت أية سحابة لتغيّم أفقي, سيدفعها الحب عني. وكذلك العمل. عمل جاد يليه عمل جاد أكثر. فأنا في الرسم أُغيّبُ المشكلة مثلما أمحو خطاً لا أريده, أو أمسح عملاً منقوصاً).

نعم, يمكننا القول بثقة: إن حب العمل دفع الغيوم بعيداً عن خيوط الشمس التي تلوّن لوحات سمير حميدي، وتجعل منه رسّاماً له القدرة على الإدهاش. لا شك أنني مُعجب بالمفردات اللونية الواسعة، أو الهائلة، التي تُبدعها أنامله الفصيحة, وأكاد أقول: إنها تنطوي على إشعاع روحي قبل أن تتجسد في ضربة فرشاة أو سكين. هذا البعد الروحي في لوحات الخط العربي مثلاً يدفعنا لنذوب وجداً فيها, بل نُحس كأننا نعيش في داخلها وننتمي إليها, ونستعذب ديمومتها في دواخلنا. وعندما نغادر مرسمه يستمر تأثير اللوحة فينا. ما السرُّ في هذا السحر؟ بالنسبة لي أجد أن سمير حميدي خُلق لهذا العمل، كي يكشف أسرار الكون, لأن الكلمة وحدها لا تستطيع التعبير عن الرمزيّة الكونية, فتحضر ألوان خيوط الشمس لتسمو بنا فوق هموم الحياة اليومية.