«مثقفون».. بين قوسين!
تضج أوساط التواصل الاجتماعي، وأجهزة الإعلام الرسمية وغيرها، بأصوات «مثقفين» من كل حدب وصوب، وبطروحات ساذجة لا ترقى بمعظمها لأن تكون توصيفاً حقيقياً، وواقعياً لما يحدث في الأزمة السورية، لا بل بعيدة كل البعد عن المثقف ودوره المنوط به في المجتمع، وفي تغيير مجرى الأحداث باتجاه المصلحة الشعبية، التي لا تعلو فوقها أية مصلحة.
المثقف التقليدي والعضوي..
«كلُّ الناس مثقفون»، هذا ما جاء على لسان الباحث والمفكر الإيطالي المعروف غرامشي، فكل الناس يمتلكون تفسيرات وتصورات متباينة حول الطبيعة والمجتمع، لكن بين هذا الجمع الغفير من المثقفين، ميّز غرامشي لاحقاً بين نوعين أساسيين للمثقفين، الأول: هو ما أطلق عليه اسم «المثقفين التقليديين/ المحترفين»، وعند هذا النوع، يمكن عرض شريحة كبيرة من الناس، فهؤلاء تتحدد ثقافتهم بإحداثيات مهنتهم، وشكل وجودهم الاجتماعي، ويغلب على معظمهم عيش حيادي، وتفكير مع الذات، ونجد في موقع المثقفين المحترفين كلاً من رجال الدين والمهندسين والحرفيين والأطباء...إلخ، وعلى عكس ما هو سائد ومعروف في الوعي الشعبي؛ فليس المنتجون لألوان الثقافة والفنون المختلفة والأدباء إلّا جزءاً صغيراً منهم.
وعلى العكس من ذلك أيضاً، فإن «المثقفين العضويين» (النوع الثاني للمثقفين حسب غرامشي) لا يتميزون بمهنتهم، وموقعهم الاجتماعي، بل بوظيفتهم الاجتماعية فهم «مجموع العناصر المفكّرة والمنظمة في طبقة اجتماعية أساسية معينة».
الفارق بين المثقف «التقليدي» و«العضوي» أن الأول: يسكن عالياً هناك، في البرج العاجي خاصته، وينظر منه للناس، وبذلك يظن أنه أعلى منهم، بينما الثاني: هو من يحمل هموم المحرومين والكادحين، والفقراء..
المثقف والإعلام..
ربما من الكافي اليوم، أن يطل المثقف المفترض عبر الشاشة الملونة أو عبر مقالة في صحيفة ما، حتى يفعل فعله، ويبدأ بتحليلاته البارعة وبإعطاء الحكم، فلكل مشكلة حكمة! ويجد الإعلام ضالته في هؤلاء لذلك يلعب دوراً كبيراً في تظهيرهم، وطالما أن الإعلام في العالم كله تابع لحكومات الدول ومشاريعها، فبذلك هو إعلام سلطة، أكثر من كونه إعلاماً وطنياً أو شعبياً، فما نراه مقابل وجوهنا منذ الصباح إلى نهاية اليوم هو مثقف من نوع معين ومحدد، ويمكن تسميته بـ«مثقف السلطة».
أما عن المثقف السابق، فحدّث ولا حرج، فقد تكون نصف ساعة منه وهو قابع على الكرسي في أحد «الستديوهات» التلفزيونية، تحمل سموماً يدفع ثمنها الشعب دماءً وخراباً وحروباً..
قد يقول القارئ: إن ما نقوله يحمل إجحافاً كبيراً، ولكن كيف يمكن أن نصوّر من روّج منذ بداية الأزمة السورية، لأقاويل الحسم العسكري والإسقاط بوصفها حلولاً على مدى سبع سنوات، بعد أن أسقط الواقع هذه المقولات وأصحابها، وثبت أن الحل السوري هو حل سياسي؟
كيف يمكن أن نصوّر من روّج للثنائيات الوهمية بوصفها إحداثيات أساسية للصراع، كالثنائيات الطائفية، أو القومية، بعد أن أثبت الشعب بنفسه حجم تلاحمه الكبير على مدى هذه السنوات كلها؟ وعلى سبيل المثال، لا الحصر، نجد أن الموقف الشعبي من المنتخب الرياضي الوطني ودعمه الكامل له، هو تعبير عملي عن هذه الحقيقة بأحد وجوهها، وما ظهر جلياً في الفترة الأخيرة أن الجميع على حد سواء، ينتظرون بفارغ الصبر مباراة المنتخب وفوزه وتقدمه على المستوى العالمي، والمنتخب نفسه يضم لاعبيين، يشكلون فريقاً واحداً يمثل الشعب والبلد، بالرغم من أنهم من عدة طوائف، ومن عدة محافظات سورية، ومن عدة انتماءات سياسية، وهذا أقل ما يقال، ونصوغهُ هنا ببساطة شعبية، فنحن نحب البساطة، و«البساط الأحمدي»! لا نجد إجحافاً بما نقول، فما هؤلاء إلا أُناس يعبرون عن أنفسهم، وعن مشروع الجهة الإعلامية التي تظهّرهم.. فليذهبوا إلى الجحيم، هم وممولوهم و«ثقافتهم»..
«الحيادية» كأداة مزيفة..
الجميع من هؤلاء، يوصّفون الأمور، ويقفون مكتوفي الأيدي، بذريعة «الحيادية» و«الموضوعية»، ولا شك أن التوصيف مهمٌ كخطوةٍ أولى(على فرضِ صحته طبعاً)، لكن ما الفائدة التي نجنيها من التوصيف، إن كان هذا التوصيف خالياً من تحليل الأمور تحليلاً علمياً يؤسس للدخول على خط التحكم في هذه الأمور وتغييرها من أجل المصلحة الشعبية؟ فالجميع يقطنون هنا، هم ليسوا على المريخ، ويمكنهم أن يوصّفوا الأمور ربما بدقة وصدق أكثر من هذا المثقف المفترض، إنما ما يهم الجميع هو التغيير، هو الحل، هو الخلاص من هذه المشاكل التي تسلب حلاوة الحياة..
يقولون: إنهم منحازون للعلم والمعرفة، وبعد حين تجد أنهم يوظفون كل فصاحتهم كلها لتبرير سلوك الطرف الذي يقفون معه، ضاربين بعرض الحائط العلم والنظرية المعرفية، فهل المطلوب هو أن نجد التبريرات؟! ما هذه الفانتازيا الثقافية؟! إن مهمة المثقف ووظيفته هي دوره النقدي في معالجة الظواهر والمشاكل، لا صنع «البروباغندا» والتبريرات، لأن ذلك يجعله جزءاً من هذه المشاكل وامتداداً لها..
ليس كل ما يُسمى مثقفاً، أصبح كذلك، فالمثقف هو ذلك الإنسان المنخرط في هموم مجتمعه حتى الصميم، والمسؤول عن كل كلمة يقولها تجاه شعبه، وهو ذلك الإنسان الذي يضع على عاتقه في كل لحظة، إعادة ترتيب أفكاره وتصوراته، وتخليصها من الترسبات المظلمة، وجعلها أكثر واقعية يوماً بعد يوم، وهذا كله ليس للتنظير والاستعلاء على الناس، بل من أجل توظيفه في إرساء دعائم التغيير في المجتمع.
وبكلمة أخيرة، إن مفارقات المشهد السوري تظهر بأن الشعب السوري قد تجاوز هذه الفئة الطارئة على الثقافة، وتحليلاتها، وتوصيفاتها، معبراً عن أعلى مستويات الوعي تجاه أزمة بهذه الخطورة!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 831