«منظّرو الفراشة».. يحلّقون بعيداً!
قد يكون كافياً، من وجهة نظر المحاور المقابل لك، أثناء سجال يدور بينكما في السياسة الدولية، أو أية قضية جدلية أخرى، أن يقول بعد جولة طويلة لك في الحديث: «هذا فهم الحداثة، أما في منظور ما بعد الحداثة، فالأمور ليست كذلك».
ولا يلبث المحاور الفذّ_ بعد أن ينسف ما قلته أنت كله_ أن يتمنطق بما بعد الحداثوية خاصته، حتى تبدأ الجواهر بالخروج من فمه، واحدة تلو الأخرى، فإذ به بـ «أثر الفراشة» يصنع نظاماً عماهياً من اللامتوقع ويُطبِقه على الواقع، وإذ به يشطح ليحمّل أينشتاين براثن أفكاره النارية، دون أن ينسى طبعاً المرور على مصطلحات من قبيل: النسبية، وعالم المايكرو، وفيزياء الكوانتم، وفلسفة «من خارج الصندوق» ...إلخ.
رفّة جناح فراشة!
لسنا هنا بصدد الدخول بتفاصيل مفهومي «الحداثة» و «ما بعد الحداثة»، وقد يحصل هذا في موضع آخر، إنما اللجوء بالمقدمة للمفهومين فسببه هو: أن أولئك «المفكرين» يقدمون مفاهيمهم حول «أثر الفراشة» ومفاعيله على أنها جزء أصيل من مكونات «ما بعد الحداثة».
في الحقيقة، إنَّ ما يسمى بـ «أثر الفراشة» هو تعبير مبسط يجري اختزال «نظرية الفوضى» من خلاله، ويجري تسويقه محمّلاً بطابع من السحر والشعوذة، لتوصيل رسائل من نوع: (ليس للإنسان دور بما يحصل، وغير قادر على توجيه الأمور أو التحكم بها).. (لا يمكن التنبؤ بما سيحدث إطلاقاً لأن حدثاً بسيطاً قد يقلب المعادلة رأساً على عقب).. (إن جميع الأحداث عشوائية وتصادفية). وعلى سبيل المثال، فإن الحرب العالمية الأولى، التي راح ضحيتها 8.5 ملايين إنسانٍ، بنظر «منظّري الفراشة»، هي نتيجة صدفة، ومتغير بسيط، وهو اغتيال ولي العهد النمساوي!
وهذه الأخيرة هي واحدة من استنتاجات منطق «أثر الفراشة»، المنطق المبني على عقلية «المسمار الذي في حدوة الحصان يمكن أن يسقط امبراطورية»!
ما سنناقشه الآن هو الأثر الفراشي المزعوم، وسبيلنا إلى كشف النقاب عن الأوهام والترهات التي تطرح في هذا الإطار، هو فهم آلية فعل الضرورة والمصادفة في الظواهر الطبيعية، حيث إن ما تسمى «نظرية الفوضى» ما هي إلا صياغة جديدة تمت في ستينات القرن الماضي لمقولة الضرورة والمصادفة الفلسفية، التي تعود صياغتها لقبل حوالي مئة عام من ذلك التاريخ.
الضرورة والمصادفة!
ليس من السهل حقيقةً تلخيص وتبسيط فهم مقولة فلسفية بهذا الحجم من خلال مادة صحفية، إنما من الممكن تثبيت بعض النقاط المهمة والأساسية، والتي تعد ضرورية لدحض ما هو غير علمي ومسوّق على أنه معرفة علمية متحضّرة.
الضرورة تنبع من داخل الظاهرة المعنية، ومن جوهرها، وهي أمر لابد له أن يحدث إذا ما توافرت ظروف معينة، وبالمقابل فإن الصدفة هي مسألة خارجية بالنسبة للظاهرة المعنية، يمكن أن تكون وألّا تكون.
لدى أية ظاهرة في الطبيعة والحياة عدد من الإمكانات، وخلال عملية التطور تظهر من بين هذه الإمكانات إمكانية واحدة معززة ومتميزة، إن هذه الإمكانية ستصبح واقعاً في حال توافرت عدة شروط معينة، وبذلك تغدو هذه الإمكانية المعززة؛ وحتى قبل أن تحدث، ضرورة. وبالتالي الضرورة هي شكل تحول الإمكانية إلى واقع، وهذا التحول يتم وفق قانونية هذه الظاهرة، ما يعني أن الضرورة قانونية أيضاً.
الضرورة هي: الاتجاه الرئيس في الظاهرة، ولكن هذا الاتجاه يرصف طريقه خلال العديد من الصدف، وهذه «خلال العديد من الصدف»، لها علاقة بأن أية ظاهرة من الظواهر مترابطة مع الظواهر الأخرى، لأن العالم المادي كلٌّ واحد، وبالتالي أية ظاهرة وهي تتطور، ولها إمكاناتها المختلفة، والتي من بينها إمكانات معززة، هناك ظواهر أخرى بترابط وبتقاطع معها، تغيّر في ظروفها وبالتالي تغّير من الإمكانات، ممّا يؤدي إلى دفع الضرورة إلى التحقق أو منعها. فالضرورة إذاً، لا يمكن أن تتحول إلى واقع إلا انطلاقاً من القانونية الداخلية للظاهرة أساساً، ولكن من تلاقي صدف خارجية تسمح لهذه الإمكانية الداخلية بأن تستمر أيضاً، والصدفة الخارجية غير قادرة أن تمنع أو تعزز إلا إمكانية داخلية، أي: لا يمكنها أن تخلق شيئاً من عندها، هي تقوم بتعزيز إحدى إمكانات الظاهرة التي هي بالأساس موجودة.
الصدفة ليست عشوائية، للصدفة قانونيتها أيضاً، فهي محكومة بالظواهر الأخرى، والظواهر الأخرى لها قانونياتها، وهذا جانب من الجوانب الذي يهملها «منظّرو الفراشة».
نحو فهم مترابط..
الصدفة والضرورة أمران موجودان موضوعياً ومترابطان، والحدث ذاته يمكن أن يكون ضرورياً وصادفاً في الوقت نفسه، ضروري من ناحية، وصدفٍ من ناحية أخرى. التقاء عدة ضرورات ينتج صدفة، وبدورها تتفاعل هذه الصدفة مع القانونية الداخلية لظاهرة ما لتنتج ضرورة في هذه الظاهرة، وهذه الضرورة تشق طريقها نحو التحقق من خلال التفاعل مع العديد من الصدف، التي يختبئ وراء كل منها ضرورة.
بالنتيجة، هناك تأثير صدفي وفراشي للظواهر لكن هذا التأثير يندمج مع قانونية الظواهر، وبالتالي، الصدفة غير قادرة بسحرها وإبداعها أن تتجاوز جميع الضرورات الطبيعية لتحقيق مشيئتها، فهي مضطرة للتفاعل مع إحداها، وعاجزة عن خلق طريقها بمفردها لتكوّن الواقع، أي: ليس ما يحصل في هذا العالم المترابط صدفة، وفي الوقت نفسه هو ليس مقرراً مسبقاً.. إن ما يحصل هو نتيجة للتفاعل الطبيعي بين ما هو صدفة وما هو ضرورة..
إن القول بعدم وجود المفعول الصدفي هو القول بأن ما نتحدث عنه الآن مقرر مسبقاً!، والقول بالصدفة المطلقة هو تجاهل للمعرفة العلمية الإنسانية، وللقوانين العلمية، وفي هذا ضرب من الجنون المطلق!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 830