قومي إذا ما أيسروا أنا موسر
يمرُّ بك في أحد الأيام شارع أنيق يحمل اسم (قسطاكي الحمصي) فتتوقف، وتتساءل: من يكون هذا الرجل الذي نال شرف أن يُطلق اسمه على شارع عام؟ وهل له الحق في ذلك؟ تكتشف في سيرة حياة الرجل من خلال كتاب( قسطاكي الحمصي أديباً وشاعراً وناقداً) تأليف الأستاذ محمد التونجي من أهل حلب، قيمة هذا الشاعر الماجد، وتقرأ له هذا البيت:( قومي إذا ما أيسروا أنا موسرٌ، وإذا شكوا ألماً فتلك كلومي) قومي إذا ما أيسروا أنا موسر، يا له من رجل، وإذا شكوا ألماً فتلك كلومي. أنت هنا أمام شخصية شعرية وإنسانية فذة، جراح الناس جراحها، وهموم القوم همومها، وهذا أعلى مراتب الذوبان في الوطنية الحقة.
1
عاش شاعرنا قسطاكي الحمصي بين قرنين رسما مصير بلاد العرب. وقد سجل العرب في هذين القرنين صفحتين من الكفاح المشرف. صفحتين من الكفاح كانتا رمزاً للبطولة والوطنية. خُتمتْ صفحة الكفاح الأولى بعد تضحيات جسام، وجهد جهيد، بطرد السلطان العثماني من البلاد العربية، لتتنسم عبير اليقظة والحرية والحياة المتفتحة بعد ظلام دامس خيم زمناً طويلاً وترك الوطن في جَهَد وعوز. فقد اندلعت الشرارة الأولى من رجال عاهدوا الوطن أن تبقى متقدة حتى يمحوا الترك والتركية من بلادهم، وسرى لهيب الثورة بين البلدان وكأنه النار في هشيم يابس. وما هذه الثورة إلا نتيجة الغليان الذي كان يمور به المرجل العربي. ولئن كانت أصوات العرب في البدء خافتة، ولئن كانت تقوم على أيدي أفراد ألهموا الوطنية وحرية الفكر فلأن الجمود الفكري الذي نشرته التركية في البلاد استطاع أن يُرجئ موعد الثورة لا أن يخمدها. وأجمع العرب على أن الترك هم الذين جرّوا الأمة إلى الثورة جراً، وأغاظوهم لإعلانها، فكان أن أُعلنت، ونُفذت. وقد كان إبراهيم اليازجي -وهو أستاذ وصديق قسطاكي الحمصي- أحد الرجال الأوائل الذين سعوا إلى إيقاظ العرب من غفوتهم على أبواب قصور السلاطين العثمانيين بقصيدته المشهورة ومطلعها:
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب
فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
2
وتبدأ صفحة الكفاح الثانية بدخول جيوش الانتداب أرض الشام والعراق ويعود المرجل العربي يغلي ويزمجر وتتصاعد الهمم، ويعلو الثوار القمم . وينهض الأدباء والخطباء ويتبعهم الشعراء وكلهم يريد خلع ثوب الانتداب الضيق مهما كلف الثمن. وامتد احتلال فرنسا لسورية ولبنان، وأخذت تتصرف في أمورها على هواها وراحوا في تشقيق سورية دويلات ومذاهب وقصدهم السيطرة ولكن دون جدوى. ولئن تمكن الفرنسيون من إخماد الثورة السورية التي أعلنت عام 1925 إلى حين، فإنهم لم يتمكنوا من إخماد ألسنة الشعراء اللاهبة التي فعلت فعلها الكبير في إذكاء نار المقاومة. وتعتبر قصائد خليل مردم، خيرالدين الزركلي، الشاعر القروي، قسطاكي الحمصي، من أبرع ما ختمت به ملحمة الثورة السورية وأصدق ما حدَّثت بها صفحات الكفاح. وقد قُدّر لقسطاكي الحمصي الحلبي أن يحيا الصفحتين ويسطر فيهما القصائد الصارخة في وجه السلطان العثماني والانتداب الفرنسي ويكتب المقالات ويجهر بها بالحثّ على نهضة الأمة والحفاظ على لغة الأجداد
3
ولد قسطاكي الحمصي في فجر الرابع من شباط عام 1858 وله من الإخوة، صبيان، وبنتان، ولم يبلغ الخامسة من العمر حتى فقد أباه فكفلته أمه. كان جده لأمه «عبد الله بن جبرائيل الدلال» محباً للعلم والأدب، وكان بيته منتدى الفضلاء، ومثابة النبلاء، وكان قسطاكي، وهو صغير، يتردد على بيت جده، فيسمع ما يدور من مساجلات ومناقشات أدبية فينهل منها ويتلقفها، فانطبعت نفسه على حب الأدب. وقد كانت الأسرتان اللتان نشأ منهما قسطاكي وعاش بينهما أسرتين مشهورتين في مدينة حلب بالمحافظة على التقاليد الموروثة، فكان كل ذلك له التأثير الكبير على نشأته. كان عندما يزور بيت جده لأمه ويسترق الأسماع في اخبار الأدب يعود إلى نفسه ويجرب حظه في قرض الشعر. ويحكى أنه قال الشعر مذ كان في الثالثة عشرة من عمره وقبل أن يدرس العَروض والصرف. غير أنه بدأه هاجياً أحد زملائه التلاميذ في المدرسة فأرشده مديره إلى رسالة الشعر، وإلى أن الهجاء آخر غرض يُطرق عادة، فأطاع. وراح ينظم المقطوعات والقصائد، فكانت بكورة شاعريته سخية الجودة، غنية الحياة.
4
لقد عزفت قيثارة هذا الأديب ستين عاماً كلها في نضال ووطنية وتأليف. وكان لحياته تأثيرها البالغ في نفوس أهله وأحفاده من الناحية الأدبية والأخلاقية، فقد اقتبست إحدى بناته الشعر عنه، فنظمت قصائد بالعربية والفرنسية، فيها العمق وفيها التفكير. كما أن ابنته ليندا ألفت محاضرات أدبية واجتماعية في بعض المنتديات تدل على نضوج دراستها، وكسبها من والدها. حتى أصهاره أدباء وشعراء كالأستاذ «الياس الغضبان» والمحامي «فتح الله صقال» الذي شغل منصب وزارة الأشغال العامة والمواصلات، وصاحب مجلة «الكلمة» وهو الذي دافع عن المناضل إبراهيم هنانو. نجد من كل ذلك أن الأسرة كلها ذات حظوة في الحياة الاجتماعية والفكرية من الأجداد حيث انصبّت في قسطاكي ومنه تفرعت هذه الثقافات وتوزعت روحه على أقربائه وأحبابه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 815