عن أيَّة «نواة ثقافية» تدافعون؟
يُعدُّ المفكِّر الماركسي الإيطالي، أنطونيو غرامشي، أول من وضع مفهوم النواة الثقافية. ويعتبر مفهوم «نواة المجتمع الثقافية» من المفاهيم التي تساهم في فهم دور المؤسسات والأدوات المؤثرة في الوعي الاجتماعي لمجتمعٍ ما.
تضم النواة الثقافية لمجتمع ما جملة هائلة من التصورات المتحركة والمتبدِّلة حول الإنسان والعالم: الخير والشر، الرائع والمنفِّر، الجميل والقبيح، التقاليد والآراء المسبقة، معارف اجتماعية من تجارب المجتمعات القديمة وخبراتها، منظومات أخلاقية... إلخ.
وما دامت هذه النواة بتبدلاتها وتحركها (مع تحرك المجتمع) مستقرة كمنظومة متبناة من الوعي الاجتماعي، فإن في المجتمع «إرادة جماعية مستقرة» موجَّهة للحفاظ على النظام الموجود.
ومن وجهة نظر طبقية، يعتبر جهاز الدولة بمؤسساته وتشريعاته وقوانينه بالمعنى المجرد جهازاً يعمل على قمع مصالح طبقة اجتماعية لمصلحة الطبقة الأخرى. وكمثال على ذلك: الجائع لا يستطيع أن يحصل على الطعام إلا من خلال النقود، لأن القوانين والتشريعات تمنع «سرقة» الطعام، ولكنها في معظم الدول لا تمنع نهب الشعوب: إنها تدافع عن الملكية الخاصة في وجه المال العام.
وكلما ازداد التفاوت الطبقي في المجتمع، كلما كانت علاقات توزيع الثروة أكثر جوراً، وكلما ازداد بالتالي القمع (المادي/ الفكري) دفاعاً عن مصالح الطبقة السائدة (المستفيدة من نمط توزيع الثروة) ضد المتضررين من السياسات الاقتصادية الاجتماعية في المجتمع ذاته.
شرعنة النهب وتبريره
هنا، تعمل النواة الثقافية على ترسيخ الاستقرار في المجتمع من خلال «شرعنة» النهب وتبريره، وتسييد ثقافة «تُحلِّل» أموال وثروات الطبقة السائدة، وتعزِّز في الوعي الاجتماعي ثقافة مصالح القلة المستفيدة.
يلعب المثقفون (الأجراء عند الجماعة المهيمنة) حسب غرامشي، دوراً أساسياً في الدفاع عن الثقافة السائدة وإعادة تدوير هذه الثقافة وإنعاشها مع تطور الواقع (ازدياد التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج)، في محاولة منهم للحفاظ على ديمومة الاستقرار الاجتماعي بعلاقاته الحالية، وعلى هذا الأساس، يصنِّف غرامشي النخب المثقفة بحسب موقعها من النواة الثقافية، وكأحد الأدوات المؤثرة في زعامة المجتمع إلى ثلاث:
الأولى: نخب المجتمع القديم الميت التابع للجماعة التي فقدت زعامتها.
الثانية: أُجراء الجماعة المهيمنة المستخدمون من أجل تنفيذ الوظائف المسخَّرة لمسائل الزعامة الاجتماعية والإدارة السياسية.
الثالثة: الجماعات التي تنضج أثناء الصراع وتخلق إنتلجنسيا خاصة بها من أجل التأثير على النواة الثقافية واستبدالها وتبوؤ الزعامة.
اليوم في سورية، وفي العالم، هنالك قديم يموت وجديد يتشكَّل، فضاء سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي يموت وآخر يولد.
«الإسلام السياسي»
إذا تفردنا في الحديث عن التصنيف الثالث من تصنيفات غرامشي للنخب المثقفة على أساس موقعها ووظيفتها من الزعامة، لا يمكن الحديث مثلاً عن «الإسلام السياسي» ضمن هذا التصنيف، لأنه ينتمي في الشكل إلى التصنيف الأول، أما في المضمون فينتمي بجزئه الأكبر (الإخوان المسلمون نموذجاً) إلى التصنيف الثاني، فهو يريد الحفاظ على علاقات توزيع الثروة نفسها. لكن بما يخدم مصلحته هو، أي: أن الخلاف ضمن الطبقة الاقتصادية الاجتماعية ذاتها.
وهنالك النخب المثقفة التي تطلق مصطلحات رنانة وجذابة مثل (دولة الحقوق والمواطنة) أو الديمقراطية (المقصود الغربية منها تحديداً). تبدو هذه النخب من الخارج تجديدية وذات طرح تقدمي للوهلة الأولى، وهي تستند بمعظمها إلى نموذج الدول الغربية. فعلى سبيل المثال: هنالك مقولة رائجة ضمن هذه الأوساط تحاول تصديرها للمجتمع، على شاكلة: «تحتاج بلداننا وشعوبها لمدة زمنية (50 أو 100) سنة أو أكثر لتلحق بركب الدولة الفلانية).
لسنا ضد الاستفادة من إيجابيات نموذج ما وتبيئته ضمن الشروط المحلية. لكن يجب فهم النموذج، أي: النموذج، بأبعاده الجوهرية، وتفسيره تفسيراً صحيحاً قبل الشروع في تبني بعض جوانبه.
التطور الحضاري الخطي
أصحاب هكذا طرح يفترضون: أن التطور الحضاري يأخذ شكلاً خطياً وباتجاهٍ واحد، وأن دول الغرب قد وصلت إلى أقصى هذا التطور وهي في «أعلى الخط». ويأتي هذا الطرح ضمن حدود ضيقة هي في العمق عقلية الدونية للغرب واللبرلة الاقتصادية للعالم، فمع تبني دول العالم كلها تقريباً النموذج الاقتصادي الليبرالي، يوجد على هذا الأساس دول متخلفة باللبرلة الاقتصادية (وليس الحضارية) ودول متقدمة، بينما يعد شكل التطور تاريخياً شكلاً حلزونياً يقوم على أساس نسف القديم الميت والاستفادة من القديم القابل للحياة لبناء الجديد.
ومن زاوية نظر أخرى، من يفترض الغرب نموذجاً يفترض بالمحصلة أنّ دول الغرب قد أتمت تطورها بقدراتها الذاتية وبمعزل عن العالم، بينما في الحقيقة وبالقليل من الفطنة نجد: أن معظم الرفاه الذي عاشته دول غربية (وهذا لم يستمر طويلاً) تعيشه على حساب نهب شعوب ما يسمى ببلدان العالم الثالث. فبعد تطور النهب العالمي وظهور منظومة الدول الإمبريالية، أصبحت دول العالم جميعها منقسمة وظيفياً، ودولنا خُصِّصت للنهب.
الفضاء السياسي القديم
إن من يدافع اليوم عن نموذج الدول الغربية هو في المحصلة: ضمن جملة المدافعين عن الفضاء السياسي العالمي القديم، حتى وإن كان يتناقض جزئياً مع الفضاء السياسي المحلي القديم.
الجديد اليوم لا يمكن أن يصاغ إلا انطلاقاً من الحاجات الموضوعية للإنسانية، فعدم السماح بتدمير أكبر للقوى المنتجة على مستوى العالم من خلال إشعال واستمرار الحروب، وهذا ما تعمل عليه قوى العالم الجديد الساعية لإطفاء الحرائق وتسييد الحلول السياسية عالمياً، وتبني أنظمة اقتصادية تكون قائمة على أساس العدالة الاجتماعية، وخصوصاً مع تدهور القوى الاستهلاكية عالمياً، حيث لا نمو من دون عدالة اجتماعية، وحماية البيئة بشكل جذري لا تتم إلا بالاستعاضة عن نمط الإنتاج البضاعي بالإنتاج الطبيعي. لا يمكن للجديد أن يُخلق إلا ضمن ظروف الصراع مع القديم، ودفن الميت منه والبناء على التراث الإنساني المحلي والعالمي كله.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 814