البطل الإيجابي المغيب قسراً!
أول ما يتبادر للذهن عند ورود عبارة «البطل الإيجابي»؛ هو مذهب الواقعية الاشتراكية، الذي تكرس في الثقافة الإنسانية التي اعتمدت الفلسفة الماركسية في تفسيرها للتاريخ ورؤيتها للمستقبل، وفق منطق التطور التاريخي للشعوب، وحتمية انتصارها لذاتها، سواء كان ذلك في الأدب، وخاصةً في الرواية، أو بغيرها من مجالات العمل والإبداع الإنساني، العلمي والنظري.
فالرواية هي أكبر الأجناس القصصية، وهي تعتمد السرد الطويل، ذا الطابع النثري، في وصف الشخصيات والأحداث والأماكن، على شكل قصة متسلسلة، تعرض حكاية البطل والمجتمع بآن معاً، وهي حكماً يجب ألا تخلو من الرسالة أو الدروس والعبر، التي يسعى الكاتب نقلها للقارئ، والتي تسمى بالموضوع والهدف من القصة «الرواية».
نقد الواقع بغاية التغيير؟
البطل في الرواية، هو الشخصية المحورية، وهي كغيرها من الشخصيات، يجب أن تجذب القارئ، عبر ما تنطوي عليها من تأزمات وحالات جدل وصراع، تغذي الحوارات، كما وتغذي الأحداث المتتالية، مع ما تحمله هذه وتلك من سبل التطوير على الشخصيات، وخاصةً شخصية البطل، خلال سير الأحداث باتجاه الحل، وهو ما تُعنى به الحبكة القصصية.
فالبطل في الرواية الأدبية، المعتمدة على الواقعية في تفسير الماضي ورؤية الحاضر، واستشراف المستقبل، هو شخصية واقعية، مهمتها الأساسية نقد الواقع والاحتجاج عليه، بغاية تحسينه والدفع به نحو الأفضل، وهو، وإن وجد نفسه وحيداً في مواجهة واقعه وعالمه، إلا أنه يستطيع تجاوز العراقيل، ويجد فرصته في الانسجام مع محيطه ووسطه الاجتماعي، الذي يتشبع منه بالوعي الاجتماعي، الذي يصقل شخصيته ويبلورها ويعمقها أكثر، أثناء سير الحبكة القصصية، ليصل في ذروتها وقد تبينت معه الحقائق كلها متكشفةً وواضحةً، وهو أثناء تجذُّر اهتماماته بالجوانب الاجتماعية المرتبطة بوسطه، ينشغل عن الذاتي والفردي، ليذوب في بوتقة الجماعة، والواقع بمختلف جوانبه، لتكون صورة الحل بالنتيجة هي انعكاس لصورة المجتمع، وفق رؤية واقعية للغرض، أو الرسالة، المتوخاة من العمل الأدبي.
موضوعية تعتمد التقدم العلمي
انتشر المذهب الواقعي اعتباراً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذلك إثر تكريس النظرة الموضوعية للحياة وللواقع، التي ارتبطت بالتقدم العلمي المعتمد على المنهج التجريبي في العلوم، وما رافقها من تقدم وتطور، بعيداً عن الإغراق في الذاتية التي غلبت على المذاهب الأخرى، الهاربة من الواقع، وكرد على تفشي النزعة الفردية الباحثة عن المال في المجتمع الرأسمالي، والنفعية في النظرة للمجتمع، دوناً عن الموضوعية والعلمية وضرورات الواقع نفسه.
أبطال من رحم الحياة!
تجذرت المدرسة الواقعية في الأدب، وقد لمعت أسماء العديد من كتاب الرواية الواقعية، ليحفر الكثيرون منهم أسماءهم على صفحات التاريخ، عبر شخوصهم المرسومة، بجوهرها الإنساني القائم على المعاناة والانكسارات والطموحات، والنضال في ظروف الحياة المتنوعة، مع الاحتفاظ بهذا الجوهر رغم العثرات والصعاب، ليظهر أبطال هؤلاء أكثر تميزاً بايجابيتهم وتفاعلهم مع الحياة.
من هؤلاء ديستويفسكي- تشيخوف- بوشكين- تولستوي- غوركي- ماركيز- عبد الرحمن منيف- عبد الرحمن الشرقاوي- حنا مينة- الطيب صالح وغيرهم الكثير.
وهؤلاء لم يظهر إبداعهم عبر اختراع أبطالهم من العدم، بل تجلى ابداعهم عبر اكتشاف هؤلاء الأبطال من رحم الحياة نفسها، وهم على ذلك، بغوصون بعمق الواقع نافذين إلى جوهره، ليعيدوا صياغته بأسلوب جديد، واضعين مهمةً جديدةً للأدب مفادها إعادة النظر إلى الواقع بغاية تغييره، ليس عبر اللغة الأدبية، أو الأدب بذاته، بل عبر بث روح التغيير الإيجابي بالبشر، القادرين وحدهم بالنتيجة على فعل التغيير المطلوب، استناداً لإمكانات الواقع نفسه، عبر سيرورته وضرورته التاريخية.
ولعله هنا يظهر الفارق الجلي في عملية إعادة بناء الشخصيات الحية في أدب هؤلاء، باعتبارهم أبطال واقعهم المجتمعي، ودورهم الإيجابي فيه، وبين الشخصيات المختلقة من الخيال المحض، أو المعاد تركيبها، بعيداً عن الواقع وإمكاناته، كشخصيات سوبرمان والرجل الوطواط، وغيرها من الشخصيات، التي تمثل الفردانية في البطولة، مع تعظيم هذه الفردانية، بعيداً عن الواقع ومتغيراته وأفقه، وبحيث تصبح القصة أو الحكاية هي تكريس للفرد البطل بمعزل عن المجتمع بالنهاية.
تغييب مقصود
على ذلك ما زالت بعض المدارس الأدبية، وعلى الرغم من تأثرها بالمدرسة الواقعية، يتذرعون بغياب البطل عن الواقع المعاش، لذلك يلجؤون لاستحضاره من التراث والتاريخ، أو عبر استحضار أبطال الأساطير، وتوظيفها في التعويض عن ذلك الغياب، حتى أن البعض منها اعتبر أن الروائي ليس ملزماً بهؤلاء الأبطال المكسوين لحماً ودماً، ويمكن أن يستعاض عنهم بنماذج أخرى من البطولة، كالأشياء أو الأمكنة، التي غايتها إبعاد الإنسان عن واقعه المعاش، مغيبين بشكل مقصود نماذج البطولة المعاشة كلها.
الصراع محتدم!
ليغدو الأمر أكثر وضوحاً على أنه صراع محتدم، بين داعمي هذه المدارس، الآفلة زماناً، مع متمرسي المدرسة الواقعية، التي استطاعت أن تغزو التقانات الحديثة كلها، من سينما وتلفزيون وشبكة عنكبوتية، وقد أكدت ثباتها وقوتها بحضورها المتصاعد، على الرغم من مساعي التشويه والتشويق المقابل كلها، المتمثل بتعظيم البطولة الفردية واستحضار العنف والقسوة والخوف والتآمر، وغيرها، وعلى الرغم من كل الدعم والتمويل الذي تمتلكه القوى الداعمة، ومن النموذج الرأسمالي نفسه، كبنية باتجاه الأفول.
وليبقى الواقع، هو المنهل الأساس في تكوين الشخصيات، في الأعمال الأدبية، باعتبار أنها تتحدث عن الإنسان وحياته ومستقبله، وليكرس قصب السبق لمصلحة المذهب الواقعي الاشتراكي، ليس على مستوى المقدرة على عكس الواقع الموضوعي فقط، بل وفي استشراف المستقبل أيضاً، سعياً للتغيير الإيجابي المنشود، المتأصل برحمه كسيرورة تاريخية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 802