توظيف الإنساني في اللاإنساني!

توظيف الإنساني في اللاإنساني!

بدأت عملية استغلال الأبعاد الإنسانية للحرب في الإعلام تأخذ أبعاداً أكثر شرعيةً، إلى درجة أن منتدى الإعلام العربي، الذي عقد في العام الماضي، كان تحت شعار «الأبعاد الإنسانية للصحافة». تلك الصحافات التي «لم تعرف من الحب سوى أوحشتني».

 

وظهر مفهوم جديد يسمى «الصحافة الإنسانية»  يلقى الدعم والشرعية من المنظمات الدولية، وما يسمى «المنظمات العاملة في الشأن الإنساني» التي تستخدم هذه «الصحافة الإنسانية» والقصص الإنسانية لخدمة أهدافها.

وخصصت في العام 2012، جائزة الصحافة العربية، فئة للصحافة الإنسانية، ذكرت في تعريفها أنها: التحقيقات أو التقارير، التي تتناول قضايا أو أزمات إنسانيةً طارئةً وملحةً، أو تداعيات الكوارث الطبيعية والحروب والأوبئة والآفات وانتهاكات حقوق الإنسان. ولم تخف الجهة الداعمة لمسابقة الصحافة الإنسانية، وهي البوابة العربية للشؤون الإنسانية (التي تعمل تحت شعار تبادل المعلومات من أجل عمل إنساني أفضل- «دليلك إلى العمل الإنساني في الخليج»)، إن  استحداث تلك المسابقة جاء استجابةً للظروف التي تمر بها المنطقة العربية من تغيرات وتحولات كبيرة (في نوع من الاستغلال المعلن الذي لا يحاول إخفاءه).

من المعروف في استخدامات الإعلام العالمي؛ التركيز على صور الأطفال والنساء، عند محاولة العزف على الوتر الإنساني، لتحقيق الغايات، وقد أشارت العديد من الدراسات السيميولوجية إلى الاستغلال الجائر، الذي تتعرض له هذه الصورة، والتي يجري تنميطها ورشف آخر قطرة إنسانية منها.

ولم تخرج الأزمة السورية عن هذا الإطار، بل أصبحت نموذجاً مدرسياً، يمكن أن نجده لاحقاً في الأبحاث الجامعية التي تكتب الآن، عن كيفية استغلال البعد الإنساني للحرب، للأهداف السياسية المنشودة.

من صور الأطفال الغرقى المرميين على شواطئ المتوسط، إلى النساء الباكيات والحاملات لأمتعة التهجير، للجثث المشوهة، والبيوت المهدمة والمحترقة.

إذ في إطار بروباغاندا المواقف في الأزمة السورية، جرى التركيز على البعد الإنساني، من موت وهجرة ونزوح واعتقال واختطاف، كانت المخيمات وأوضاعها المزرية بطل الساحة الإنسانية، وأفلام رحلات اللجوء إلى أوروبا أصبحت جنساً إعلامياً معترفاً به، التفجيرات وأشلاء الضحايا المتناثرة، باتت محفزاً حقيقياً لروح الانتقام، قصص المخطوفين والمعتقلين والمشوهين والشهداء، أصبحت مادةً دسمةً لإعلام متعطش للمزيد من الدماء، ليستثير المزيد من أعمق المشاعر الإنسانية تفجعاً، مشاهد الأمهات الباكيات المصدومات، صارت مشهداً تستجديه المحطات.

مكونات العالم الروحي والمادي للإنسان السوري كلها أصبحت مرتعاً لكل وسائل الإعلام جميعها، للحديث فيها، وهذه المكونات الأليمة ليست بكاذبة، إنها حقيقية مائة بالمائة، وهي بالتأكيد صحيحة من حيث العرض، لكن توظيفها بالمعنى السياسي جرى حتماً لصالح الاستقطابات السياسية المباشرة، التي ليست معنية حقاً بضحايا الحرب الحقيقيين، ولصالح الثنائيات الوهمية التي تحكمت في مسارات الأزمة لصالح الأجندات الدولية والإقليمية. دافعةً بمؤسسات إعلامية متخصصة، أنشئت في زمن الحرب، إلى قمة إبداعها في المبالغة واستغلال آلام السوريين.

ومن  أبرز الأمثلة على ذلك؛ ملف المنطقة الآمنة الذي استغل الأوضاع الكارثية للاجئين السوريين، من فقر وجوع وبرد، واستغلال جنسي للقاصرات، ونقص في التعليم، إلى ملف اللجوء إلى أوروبا، وتفاصيل تفاصيل رحلات العذاب والاستغلال، وقصص بيع المنازل من أجل السفر، والسباحة عبر المضائق والعواصف، وخفر السواحل والبرد والغرق، والحدود والبصمات والضرب والسجن والمهانات والضياع، إلى فقدان الانتماء والعزلة والأمراض النفسية، والاندماج وحتى إلى العودة.

تلك الآلام الإنسانية المعاشة يومياً، وعلى مدى سنوات ست من عمر الحرب والأزمة السورية، والتي يتم تداولها واستثمارها في بازارات العهر الإنساني، والتوظيف الإعلامي ذي الطابع السياسي، خارج حدود الأخلاق والإنسان، لم تكن في يوم من هذه السنين الطويلة والثقيلة، عبارةً عن أزمة إنسانية عابرة، أو صورة ملفتة طارئة ومؤطرة، أو قصة ذات حبكة محدودة المكان والزمان والشخصيات، بل هي عبارة عن تأريخ يومي للبقاء بالنسبة لمن عاشها وعاناها من السوريين، وهؤلاء وحدهم من لهم الحق بحسن استثمار مآسيهم وآلامهم، عبر الذاكرة التي أرشفت معنى الحياة بعمقها بالنسبة إليهم، من أجل البحث عن خلاصهم الجمعي بنهاية المطاف، بعيداً عن أشكال الاستثمار اللاأخلاقي كلها، والبعيد عن الجوهر الإنساني الحقيقي، الساعي للمزيد من استنزاف الألم، من أجل سبق صحفي ما، أو من أجل جائزة تمنح من هذه الجهة أو تلك، أو من أجل تحقيق انتصارات مزعومة لهذا الجانب أو ذاك، على حساب قصص الدماء والدمار والخراب والتشرد واللجوء والفقر والجوع، ذات البعد الإنساني الواقعي والعميق.

هذا التركيز كله وابراز الجانب الإنساني، ورغم تمظهره بشكل أخلاقي، إلّا أنه ساهم بشكل لا أخلاقي، وعلى عكس ظاهره، في تعميق ثقافة وصحافة اليأس والإحباط والتوتر والرّهاب، بما يعزز نزعة التطرف والانتقام وإعادة إنتاج العنف والإرهاب، في رد فعل على كميات الدم كلها، التي جرى تسويقها في هذا الإعلام.

هذا الإعلام الذي لم يستطع، بل لم يرد أن يضع الحلول في سياق المواكبات الإعلامية، فالحلول قد تقطع شلال الدم، وقد تزرع الأمل بإيقاف الحرب، وتقطع إمداد هذه الوسائل الإعلامية بالخبر الساخن النازف، الذي يغذي أنياب دراكولا الإعلام المتعطش للمزيد.

لتصبح المعادلة؛ أن تستغل الإنساني في خدمة اللاإنساني، وفي خدمة استمرار الحرب!!.

معلومات إضافية

العدد رقم:
801