«آه يا زمناً لا جبين له.. آه يا أمة نسيت وجهها»
تناقلت بعض المواقع ووسائل التوصل الاجتماعي، نبأً عن وفاة الشاعر العراقي المعروف مظفر النواب، وبعضها نفى ذلك، لكن لابد من التذكير به.
رحل مظفر أم بقي، فأشعاره باقية في ذاكرة الشعوب في البلدان العربية والعالم، كأوابد أثرية تشهد على عمق أفكاره، بشجن عراقي نبيل، في نصوص مبدعة.
فــ«وترياته» ما زالت تعزف في قلوبنا، و(سعود) ما زال يسرج الدم على صهيل (الشُّكُر) و«صويحب» بمنجله يداعي، و«ليالي البنفسج» العزيزة، وكثيرون لم يوقعوا على (البراءة) من أفكارهم ومواقفهم ولو عُمُرهم تعدى الثلاثين، و«سكاكينه» تطعن الحكام وأزلامهم والأم (المكّبعة) بعباءتها تخفي المناشير وتوزعها في الدرابين الصغيرة..
وكما كتب عن الثورة والثوريين والفقراء والمعدمين، كتب عن الحب والعشاق، فما زالوا كحمد يتسللون في (اغطار) الليل ليستمعوا لصوت نجر القهوة ويتنسمون رائحة الهيل، وتحدث عنه الكثيرون.
النوّابُ مدرسة شعرية متميزة، وخاصةً في الهجاء المعاصر للحكام العرب، وفضح أنظمة الهزيمة، وتمرد على القمع السياسي والاجتماعي دون تردد أو وجلٍ أو خوف.
رفض أن يعود إلى العراق المحتل أمريكياً، بعد سقوط الدكتاتورية، ورفض أن يعود إليه بعد أن طُرد المحتل الأمريكي، لأن عِراقه لم يكن ديمقراطياً، كما رفض المحاصصة الطائفية.
لقد أثار مظفر النواب جدلاً نقدياً واسعاً، حول تعابيره وخطابه الشعري! ولم تخذله اللغة الفصحى أو العامية في اختياراته الهجائية، من مفردات لهجة العوام والشارع الزاخر بالثورة نَهَل الكثير، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، التي اعتبرها البعض أنها كانت فجةً وقاسيةً، رغم أنها نهلت شتائمها من قواميس ومفردات اللغة العربية والشعب، واعتبره البعض مُقذِعاً، في التلفظ والشتم والتوصيف للأنظمة العربية، بينما كان هو واعياً لما أراد قوله، رغم حالات السكر العلني وغيبوبته الشعرية، وقد سجل قصائده صوتياً وأصبحت متداولة شعبياً وثقافياً!.
قرأ قصائده في كل مكانٍ، غير مهتم لما سيقال عنها، وهو الذي ألقاها متميزاً في عشرات الأمسيات الشعرية الجماهيرية، على امتداد بلدان وعواصم الوطن العربي، محتجاً ومتمرداً وهو في حالة غضب واحتجاج لم تعهدها المنابر الشعرية العربية،
التي كانت زُوّادة محفوظة على ألسنة وأسماع المناضلين والمعذبين في السجون العربية والأراضي المحتلة، وهي التي عبّرت بحق عن كبت المشاعر النبيلة للثورة، رغم محليتها المفرطة، وبها كان مظفر النواب قريباً من نبض الشارع العربي، فلاصق في أسلوبه الفقراء والمعدمين والثوريين، والمعجبين به وبمواقفه الوطنية والثورية والجريئة ضد الحكام والأنظمة العربية .
كان النواب أيضاً، شاعراً شعبياً مبدعاً في التقاط الصور الفنية من الواقع المؤلم، ويعتبر رائداً لمدرسة الشعر الشعبي العراقي الحديث، كما كان مناضلاً سياسياً، ورساماً متذوقاً، ومغنياً، ومتمرداً على العُرف الثقافي والشعري والاجتماعي، وتعرض جراء مواقفه الثورية لمواقف قاسية، وقدم تضحيات مريرة، خلال سنوات طويلة من عمره، ذاق فيها السجن والتغرب والاختفاء، داخل وخارج وطنه.
غنى له عمالقة الغناء العراقي الذين عاصروه، أو الذين برزوا بعده، كالياس خضر وفؤاد سالم وحسين نعمة وحميد منصور وسعدون جابر، وكوكب حمزة وسامي كمال، وفرقة الطريق وغيرهم ..
لقد أسس النّواب لثقافة ثورية ووطنية متميزة وفريدة، جمعت بين مضامين متعددة، وأشكالٍ متنوعة، بأساليب بسيطة بعيدة عن التعقيد، لتصل إلى السوّاد الأعظم من الناس، في ظاهرةٍ ربما لن تتكرر، ولن ينوب عنه أحد.!
صمت النّوّاب في سِنِيّ حياته الأخيرة، وبقي صمته سِرّاً، أهو صمت المحبط والمهزوم، أم صمت المريض والمكلوم.؟ وهو الأرجح، لأنه لم يصمت في ظروف أقسى، أيام السجن والمطاردة والقمع.
فإن رحل اليوم فهو يصمت صمتاً نهائياً، لكن ستبقى قصائده تتكلم بلغة الفقراء والمستضعفين، وتروي معاناة الشعب العراقي ومعاناته، بغضبٍ أحياناً، وبحُزْنٍ أحياناً أخرى.!
أبا عادل: لقد سُميّت النهر الثالث إلى جانب دجلة والفرات، وتستحق ذلك.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 797