لوحة على جدار البار
هناك على الجدار، كان يجلس مرتاحاً على كرسيّه الخشبي ضمن إطار اللوحة، مراقباً ما يجري حوله، ومستغلاً فرصة أن الراقصين والسكارى، لم يعودوا يتأملون اللوحات المعلّقة على الجدران.
ما تزال كأسه نصف ممتلئة، مذ أتمّ الرسام الذي ابتدعه تلك اللوحة التي أعيد استنساخها آلاف المرات. لتصبح، ولسببٍ غير مفهوم، جزءاً أساسياً من ديكور الحانات الصغيرة وبارات الليل.
في اللوحة، يجلس السكير العجوز مسنداً جسده إلى طاولةٍ خشبية، شعره الأبيض مشعث، وكذلك لحيته غزيرة الشعر. يضع على رأسه قبعةً قديمةً من القش ويرتدي قميصاً أبيض مفتوح الياقة على صدرٍ مكشوف.
أهم ما في اللوحة ربّما، ذلك التعبير المرتسم على الوجه، تلك العيون الصغيرة الضيّقة السكرى، التي تنظر بثباتٍ وخبثٍ إلى الأمام. أما الأنف فهو كبيرٌ محمر، والابتسامة عابثة تكاد تكون وقحة.
من كان ذاك الرجل، وكيف أصبح رمزاً للسكارى؟ تدل هيئته على أنه صيادٌ ربما. أو ربما فلاحٌ فقير، أو مجرد عجوز أحمق مدمن للكحول. هو الشكل النموذجي لسكّيري الحانات، كما تصفهم الروايات الكلاسيكية أو أفلام السينما. بحيث تكاد تتخيله يتحدث الإنكليزية، بلكنة إيرلندية ربما، بحيث يلوك الكلمات ومخارج الحروف، ويطلق الشتائم مقهقهاً، بينما يملأ كأسه بالمزيد من الشراب.
لا أحد يكترث بالسؤال عن الوِجهة التي جاءت منها اللوحة، أو اسم الرسام التي أنجزها. لأن السكير العجوز، جنباً إلى جنب مع لوحة الطفل الدامع الخدين، ووجه الموناليزا، وغيرها من اللوحات العالمية التي استخدمت بكثرة تجارياً، تركت متاحفها ومحترفات رساميها، واستوطنت في الصالونات المتواضعة وحانات الليل.
ينظر العجوز بعيونه السكرى إلى الشبان الراقصين من حوله، هو الأكبر سناً في المكان، ولو أنه كان من لحمٍ ودم، وليس مجرد رسمٍ على الجدار، كان وجوده سيثير الضيق وعدم الارتياح بالتأكيد. فمن يستطيع أن يراقص فتاة أو يشرب كأساً بعد آخر من «فودكا» رخيصة مغشوشة دون أن يخشى سماع تأنيب ولعنات جدٍ غاضب؟!
كان سيترك طاولته، ويجرجر أقدامه خارجاً من كادر الصورة لينزل بين جموع الشبّان. ستبدو قبّعته غريبة الشكل تحت الأضواء المتراقصة. ربما يحاول الصراخ، أو قد يكيل الشتائم هنا أو هناك. لكن أحداً لن يلتفت إلى العجوز الحانق. قد يشعر بعدها بالقليل من الحرج، فينسحب من جديد ليستعيد مكانه على الكرسي الخشبي، حيث يستمتع هناك بالمراقبة وتأمل مجريات الأحداث، دون أن يحاول تغّيرها. أو قد يحصل النقيض تماماً، فيصعد بعض الشبّان الثملين إلى اللوحة، يسقطون متهالكين من التعب على الكراسي الخشبية بجانب العجوز، ويستيقظون دون أن يعلموا كيف وصلوا إلى هنا.
اللوحة مغتربة عما يحدث حولها في البار. والبار مغتربٌ عما يحدث حوله في المدينة. سكارى هذه البلاد لا يشبهون الرسم على الجدار، وما يحدث داخل البار لا يشبه الحياة في الخارج. النظرة الساخرة للعجوز تبدو أزلية. الموسيقا تزداد صخباً، والراقصون يطوفون سكارى داخل حلبة الرقص، أو متظاهرين بالسكر. تحرّكهم خيوط الرغبة والفراغ والخوف. هناك تنافسٌ خفيٌ ومعارك تحدث في السّر، عيونٌ تلتقي أو تتباعد. الجميع متنكرون، حتى أولئك الذين يتظاهرون بالطبيعية وعدم الاكتراث.
للحظات قليلة فقط، تبدو الوجوه دون ملامحٍ ودون عيون. وحده العجوز في اللوحة على الجدار، مازال محتفظاً بنظرة حادة لا تلين. تتغير الوجوه وتتعاقب الأجيال وهو الثابت في المكان. ينظر إلى الصغار من حوله كما لو أنه يفضح مشاعرهم ومخاوفهم وانكساراتهم. يبتسم ساخراً في سِرّه، ويكمل شرب كأسه التي لن تفرغ أبداً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 794