في نقد القراءات التأريخية..

في نقد القراءات التأريخية..

التاريخ، أو العملية التأريخية عند البعض، هي: مجرد نصوص إنشائية قصصية لا علاقة بعضها ببعض، سرد لوقائع وحكايات غير مترابطة. وقد لا يختلف التاريخ هنا عن أدب القصص والحكايات والأساطير. ذلك ما يجعلنا نقول: لو نطقت الحجارة لأضحى التاريخ المكتوب أكذوبة كبرى. 

 

يسود هنا اليوم، نمطان من القراءات التأريخية، يختلفان شكلاً فقط، النمط الأول: متأثر بالأدوات والأساليب واللغة والمصطلحات التأريخية، التي كانت سائدة في العصور الاقطاعية، ويكتب ممثلوه التاريخ اليوم باستخدام تلك الأدوات نفسها، أما النمط الثاني: هو من إنتاج مؤسسة الاستشراق الغربي وعلم التاريخ البرجوازي، وأدواته قائمة على التقسيم الجائر للتاريخ إلى مراحل غير علمية أصلاً، تعتمد الترتيب الزمني من مثل العصور البربرية، والعصور الوسطى، والعصور الحديثة.

تستخدم المدرسة الغربية أدوات وأساليب ولغة ومصطلحات تأريخية محدثة قليلاً، ولا تختلف عن النمط الأول إلا بالشكل، ويزداد اليوم استخدام الأدوات القديمة بعد التحديث المشوه لها بشكل كبير، هنا بالضبط يخدم النمطان بعضهما، أحدهما يدري ماذا يفعل والآخر لا يدري!

كيف يتم كتابة تاريخ الشرق؟

يسيطر هذان النمطان على ساحة كتابة تاريخ الشرق، ويمارسان الهيمنة عليها، في الجامعات والمعاهد والصحافة والمناهج التدريسية والمؤلفات الأكاديمية.

هنا بالضبط يخدم الواحد الآخر، وقد يبدوان لنا متصارعين، لكنهما يتشاركان في الأدوات والأساليب واللغة والمصطلحات التأريخية، كلاهما متفقان على أن تاريخ الشرق، هو: تاريخ القوميات والطوائف والعشائر المتصارعة. ويلتقيان هنا مع نظرية «صراع الحضارات» أو «صدام الحضارات، وإعادة تشكيل النظام العالمي» لصامويل هنتنغتون، ليجري تزوير الحدث التاريخي كظاهرة سياسية اقتصادية اجتماعية ثقافية، والذي هو إخراج الحدث عن سياقه المنطقي، ومعناه لي عنق الحقيقة التاريخية. وإجبار شعوب الشرق على الوقوف بين خيار التغريب أو الجزء الرجعي من التراث. 

بيت ترجمة.. وترجمة

يخبرنا البيان الشيوعي «1848» أن تاريخ كل مجتمع منذ القدم وحتى اليوم، هو: تاريخ صراع الطبقات. نستطيع القول إن الماركسيين انطلقوا من هنا لكتابة التاريخ وتزخر المكتبة العالمية بآلاف الكتب التاريخية عن شعوب العالم ومنهم شعوب الشرق.

نتيجة الهيمنة التي يمارسها الاستشراق الغربي، وبقايا الفكر الاقطاعي، على كتابة التاريخ في الشرق، وقع بعض الكتاب في فخ القراءات المشوهة للتاريخ، وكانت كتاباتهم صدى  لشكل التصنيف الاستشراقي للشرق. ونستطيع ذكر مثالين مهمين في هذا المجال.

نشر الدكتور أرشاك بولاديان كتابه، الذي يحمل عنوان «الأكراد في العصر العباسي من القرن السابع حتى القرن العاشر» في أرمينيا السوفييتية نهاية الستينات، والذي هو في الحقيقة كتاب عن تاريخ شعوب الشرق، والصراع الطبقي في تلك المرحلة، قام عبد الكريم أبازيد بنقله إلى العربية في السبعينات، وقد تكرر ذكر مصطلح «نضال الأكراد ضد العرب» عدة مرات في هذه الترجمة. 

عندما كان الدكتور بولاديان سفيراً لجمهورية أرمينيا في الإمارات سنوات التسعينات، نقل كتابه بنفسه إلى اللغة العربية، ولم يظهر هذا المصطلح الاستشراقي في مؤلفه! أضف إلى ذلك أن الكتب السوفييتية حاربت هذه المصطلحات أصلاً.

في كتاب الحركة الشيوعية السورية، للدكتور عبد الله حنا الصادر عام 2008 وفي معرض حديثه عن حراك الفلاحين السوريين ضد الاقطاع، يصر الكاتب على الانتماء المناطقي بصيغه المختلفة، الدينية والطائفية، والقومية، ففلاحو بشرايل « علويون»، وفلاحو المشرفة «مسيحيون» وفلاحو الجزيرة «أكراد» وفلاحو موحسن «مسلمون»، وذلك دون أي مبرر منهجي، أو سياسي، ليقع بذلك في مطب القراءة التاريخية، خارج سياقها الواقعي، وكونه حراكاً اجتماعياً.

إن التاريخ لا يرحم أيها السادة، والتاريخ لا يكتب بقلم رصاص، بل بدم وعرق وتضحيات الشعوب، لذلك أصبح نقد مثل هذه القراءات التأريخية، وإعادة النظر في كثير مما كتب حتى اليوم، مهمة مطروحة أمامنا، خاصة وأن ممثلي المدرسة الاستشراقية الغربية، والمتأثرين بالتفكير الاقطاعي، لا يرحمون. 

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
790