وحيداً كان البرتوكول
لم تلتفت السيدة التي تجاوزت الستين من عمرها لما يدور من صخب في الحفل، وأكثر ما فعلته همس اقترب من شحوب الشموع التي نابت عن الكهرباء المقننة، وأما من ساء حظه بجوارها فسمع قصة حياتها الطويلة، وخيبتها من فشل الإعلام الخاص في تخطي عقباته المادية، وأنها ستسافر إلى بيروت للبدء بمشروع إعلامي جديد، فبيروت أم الصحافة العربية الحرة.. السيدة الستينية لم تتوقف عن شرب النبيذ بشراهة مع قطع الحلوى، وفجأة سألت مجاورها بماذا يحتفل هؤلاء.
في الطاولة المجاورة لحفل توقيع ديوان الشعر الجديد بدا واضحاً انسحاب بعض الضيوف خلسة لخلوة حميمة، والشاب المتوهج بالنبيذ يعيد ترتيب شفتي صديقته على الموسيقا الداخلية لطقس القصيدة، وبقية الكراسي بجواره تمارس النظر وادعاء اللامبالاة.. فالطقس شعر.
بانتظار أن تعود الكهرباء يتبادل الحضور قراءة إهداءات الشاعر، وابتسامات وقهقهات من هنا وهناك، وشخص جدي يحصي كم من الحب والإيثار كانت حصته، وأما الصبايا اللواتي أتين إلى الحفل برغبة الحصول على (أوتوغراف) فمشين على عجل للحاق بجلسة أرجيلة بمعسل ماركة (تفاحتين).
وحيدة جلست تقلب الكتاب كآلة عد النقود الالكترونية، وتوقفت طويلاً عند إهداء الشاعر، والتفتت من حولها تتأمل الحضور، وفي أعماقها تهمس الأنثى لقد خصني بتلك العبارة، ودون أي ضجيج انسلت خارجة من بين الشموع إلى وحدتها.
شرب أكثر من لتري نبيذ، واستعاد قليلاً من لياقته القديمة، وتذكر حينها سقطات ذلك الجميل الذي تنقل بين (الرواق) ونادي الصحفيين، وانتظر موته الغريب، وكان حينها يدعى مصطفى الحلاج، وأما شبح (بخاري) فلم ينتبه إليه أحد كان يحدق بالأصدقاء الحاضرين منتظراً من يلقي عليه السلام أو الدعاء.
مع عودة التيار الكهربائي عاد الجميع لتفحص وجوههم مرة أخرى، ومرة أخرى أعادوا قراءة ما كتبه الشاعر من انطباعات حولهم، وبعضهم حظي بعبارات تقليدية، وأما من أحس بخصوصيته فعاد ليطبع قبلة تأكيد كمن يضغط على زر (أعجبني) في تبادل فيسبوكي للمشاعر.
الطاولات تجمعت عليها الكؤوس وبقايا الحلوى، والسيدة الستينية ارتوت من احتفالية الشعر السريعة، وانسحبت خارج المكان، والأديب الدكتور لملم انطباعاته البوهيمية عن امرأة تتآمر عليه بنظراتها، ومحاولة مواعدة كالعادة باءت بالفشل، وثمة من سترسل له طلب صداقة باسم مستعار.
قبل انقضاء ساعتي الاحتفال بقليل حضر بخطواته المتثاقلة والواثقة، وتوجه إلى زميله الشاعر بقبلة ممطوطة، ومن ثم عاد إلى طاولة صغيرة يتكوم فوقها الديوان نسخاً جاهزة للتوقيع، ورمى المال بإحساس الداعم والمنتصر، وأخذ بيد ممدودة توقيعاً خاصاً يبارك حضوره.
في صالة النادي يرمق صحفيون وأدباء الوافدين بنظرات الرواد الأوائل، وأن كل هؤلاء مجرد جمهرة لهواة ربما ذات يوم يستحقون أن يسجلوا أسماءهم في اتحاد الكتاب، أو يتجرؤون على الكتابة في أسبوعيته الشهيرة.
انقضى البرتوكول، وعند الباب بالضبط كان وحيداً.. والمساء بارد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 543