علي سفر علي سفر

فنجان قهوة: الموت كسلعة يومية في سنوات «نهاية التاريخ» قوة الإعلان وضعف الصمت...

قبل سنوات.. تصدر خبر إعلان أنغمار بريغمان عزمه على الانتحار بشكل مُعد ومخطط له زاوية واضحة في عدة صحف أجنبية وعربية.. وعلى العكس من هذا التصدر انزوى خبر شنق أحد الآسيويين نفسه في أسفل صفحة أخيرة في واحدة فقط من الصحف العربية..! وبين الخبرين مرت سحابة من الكلمات والأفكار المقدر لها أن تمر همساً وبلا أي ضجيج يخالف المعتاد وبقي أن بينهما ضمنياً مساحة شاسعة هي المساحة الواضحة بين الشمال والجنوب..

السويدي بريغمان بالتأكيد ليس أيقونة مثلى للتأمل في بنية ثقافية وعرفية تحكم الشمال الفني والقوي بل حتى المتغطرس.. إذ أنه يعلن عن رغبته في فعل الانتحار حزناًً على أنغريد بريغمان التي رحلت في عام 1995 إثر سرطان المعدة... ولكن فعله بحد ذاته هو ما يحملنا على اعتبار الإعلان بذاته  أيقونة التسيد الإعلامي... حيث لا شيء أكثر قوة وتأثيراً منه.. وفي المقابل انتحر الآسيوي في البحرين بصمت ودون إعلان أو حتى أثر سوى أنه ترك جهاز تلفازه مفتوحاً على محطة B.B.C فإذا ما تعاملنا مع هذا الصمت وذاك التفصيل بجدية غير معتادة هل سنخلص إلى قراءة من نوع  ما تمحص العلاقة بين قوة الإعلان وضعف الصمت وهما المقابلان الرياضيان لعلاقة الشمال القوي بالجنوب الضعيف..؟
في العام 1972 قام يوكيو ميشيما الروائي الياباني بتنظيم عملية انتحاره الخاص بعدما أقدم على احتلال إحدى القواعد العسكرية اليابانية مع فرقته من مقاتلي الساموراي ليعلن بعدها مطالبه التي اعتبرت خرقاً لبروتوكول الصمت المتواطئ عليه بين الحكومات اليابانية المتعاقبة  وبين الولايات المتحدة الأمريكية.. وبالتأكيد فشل يوشيما في إجبار اليابان الرسمية  على اتخاذ قرارات تخالف ما هو مهيمن على المستوى العالمي بينما نجح في انتحاره في جعل الكثيرين ـ وأنا منهم ـ  يتذكرون أن لا شيء يستحق الحياة من أجله طالما كان الفم مغلقاً والواقع مسكوتاً عنه في ظلال راسخة ليست أكثر من سواد يمد بطوله على الحياة الراهنة...
وقبل ثماني سنوات من الآن حدثت في رواندا أبشع مذابح التاريخ الحديث حينما نجح المتطرفون القبليون في إبادة ما يقارب  العشرين في المئة من سكان البلاد من الهوتو والتوتسي المعتدلين وسط حمى الدم التي جعلت أحد قادة هؤلاء يعلن في ذاك الوقت وبصفاقة توقف عصابته عن عمليات القتل لعدم بقاء أي من «الأعداء» على قيد الحياة..!
وبالتوازي مع هذا كله اكتشف العالم في نهاية عقد التسعينات طائفة «مفبركة» هي طائفة (إحياء الوصايا العشر) في أوغندا قام مؤسسها بإبادة أتباعها من اجل الحصول على أموالهم بعدما اكتشفوا أن العالم لن ولم  ينته في نهاية العام 1999 وبداية العام 2000. وليبدو أن العالم انتهى حقاً عند هذه الحدود الفاصلة بين الموت والحياة أو بالأحرى بين إعلان فكرة الموت بشكل استعراضي وبين الموت بصمت في معتركات بشعة تبدأ بالاضطهاد الاجتماعي الطبقي لتصل إلى الاضطهاد العرقي والطائفي وصولاً إلى الإجرام المنظم من قبل الأفراد أو الجماعات أو الحكومات...
وبعيداً عما يساق هنا من تفكير بعولمة الموت وجعله سلعة استهلاكية في الأخبار اليومية لابد للثقافة من أن تعلن موقفاً مما يحدث على هذا المستوى المحلي أو ذاك العالمي.. موقف قوامه إعادة الاعتبار الإنساني مما أنجزته الحضارة الإنسانية في مجال تفكيرها بالإنسان كموضوع.. وأقصد إعلانها العالمي لحقوق الإنسان...
هل بقي شيء في هذا الإعلان يستحق أن يتوقف عنده المثقف كيما يفكر فيه مجالاً لإثبات العافية الفكرية والإنسانية..؟ أغلب الإجابات تفيد بالنفي فالإنسان الميت /الصامت/ المقهور والضحية الممتازة كاحتمال هو الإنسان المرحلي وهو أيضاً الإنسان الاستراتيجي في ضوء «العولمة» المقترحة إمبريالياً.. وهنا لا نجد أي قيمة في إنجازات إنسان فلش الجوهر التراجيدي للذات الإنسانية وصراعها بين الرغبة بالحياة وبين الموت أو سكون العناصر والأرواح. ومضى ليعلن عزمه على الانتحار بشكل استعراضي وقد هزمه هاجس حب لشخص ميت، بينما تمضي شعوب بأكملها إلى حتفها مساقة أو متروكة في عراء حروبها
                                                    

معلومات إضافية

العدد رقم:
178