29 آب 1987 بعد رحيل ناجي العلي.. بقي الكرسي شاغراً
في إحدى رسومات ناجي العلي يتحدث رجل من شخوصه إلى حنظلة وهو يقرأ الجريدة قائلاً: «آه لو كان صلاح الدين موجوداً» فيجيبه حنظلة: «كانوا اغتالوه»!!.
بعد مضي خمسة عشر عاماً على رحيل فنان الكاريكاتور العالمي ناجي العلي، بدا واضحاً أن كرسي الكاريكاتور بقي وسيبقى شاغراً ولفترة طويلة، فكلما ظهر اسم جديد في هذا الفن، بدأت الأصوات تعلن: هاهو ذا خليفة ناجي العلي. إلاّ أنه سرعان ما تنكشف الأوراق، ليعود ويتقهقر هذا الفنان أو ذاك إما ليتحول إلى بوق لجماعة ما أو حزب أو دولة، أو يسعى وراء مكاسب آنية كانت أبرزها في التسعينات حرب الخليج.
لم يستطع أي اسم أن يقف ذلك الموقف الذي وقفه ناجي العلي، الذي خلق لفن الكاريكاتير شعبيته في الأوساط الفلسطينية والعربية، بذلك الصدق والجرأة والموضوعية هذا الفن الذي وضع ناجي العلي بمصاف غويا كمؤسس لفن، وليحمل حنظلة سحراً كذلك الموجود في ابتسامة الجوكندة، وفلسفة في الأسئلة التي كان يطرحها ناجي العلي حياً وشهيداً إلى يومنا هذا كتلك التي طرحها فلاسفة كبار.
سمعنا الكثير من المثقفين يتساءلون في الكثير من المقالات والرسومات: ماذا كان سيرسم ناجي في الحقبات السياسية التي اعقبت اغتياله، وها نحن على أعتاب حقبة سياسية جديدة، نراقب رسوم ناجي لنطرح سؤالاً: هل كان ناجي العلي يستشف ماذا كان سيحدث في الواقع العربي والعالمي أم أنه لا جديد تحت الشمس العربية.
بعد صراع طويل مع الموت بعد غيبوبة طالت مذ أقعدته رصاصات الغدر قبل ذلك بخمسة أسابيع غادرنا ناجي العلي ليقف إلى جانب الكثيرين ممن أصابت أجسادهم رصاصات مشابهة إلاّ أنها حولتهم رموزاً لتخفق في إزاحتهم من مخيلة الشعب، ومن دفاتر التاريخ.
ولد ناجي العلي في العام 1936 في قرية الشجرة إحدى قرى جليلها، كان ناجي العلي في الثانية عشرة من عمره حين هاجر مع عائلته من فلسطين ملتجئاً إلى مخيم عين الحلوة، أغرم باكراً بفن الرسم فالتحق بمعهد الفنون في العاصمة بيروت، إذ كان بوده أن يسافر إلى روما ليكمل تعليمه إلاّ أن الظروف المادية حالت دون ذلك، فرحل بعد ذلك إلى الكويت ليعمل مخرجاً ورساماًُ في الصحافة الكويتية، ثم رساماً للكاريكاتير في مجلة الطليعة التي كانت تنطق باسم الفرع الكويتي من حركة القوميين العرب التي كان ناجي العلي انتمى إليها باكراً، في الكويت وسع ناجي العلي دائرة عمله، وراح اسمه ينتشر بسرعة ورسوماته تتناقل عبر وسائل الإعلام، والتي لم تكن بالسرعة التي نشهدها الآن في العالم العربي على الأقل، وكان بمثابة الصدمة للكثير من الفنانين في ذلك الوقت، حيث أن الأسلوبية التي عمل فيها ناجي العلي حطمت الكثير من الأشكال الثابتة التي كانت الصحافة العربية تملأ بها صفحاتها، حيث كان فن الكاريكاتير في كل من سورية ولبنان ومصر قد وصل إلى طريق مسدود يعتمد على السخرية المفتعلة، والكثير من الكلام الموظف كما في السيناريوهات التلفزيونية الكوميدية، حواريات موظفة وموجهة، أما ناجي العلي فلم تكن السخرية عنده هي الأساس، بل أن السخرية نفسها صارت سخرية من الذات.
لم يكن ناجي العلي ينتج رسماً واحداً بل كان مضطراً لأن يرسم أكثر من رسم لأنه كان يعرف مسبقاً أن أسباباً رقابية ستحول دون ظهور هذ الرسم أو ذاك.
كان تمرد ناجي العلي على كل شيء هو السمة الرئيسة مقابل وضع عربي يزداد تهلهلاً وتفككاً، وذاع صيته أكثر فأكثر. في أواسط السبعينات استدعته جريدة «السفير» اللبنانية للعمل في بيروت فلبى الدعوة لمعرفته بأن هناك مساحة أوسع للحرية، فحقق ناجي العلي قفزة كبيرة لفن الكاريكاتور وصار حنظلة رمزاً لكل فلسطيني «صورة للضمير الفلسطيني المعذب والتائه»، غير أن الغزو الإسرائيلي فاجأ ناجي العلي في بيروت فاضطر للعودة إلى الكويت للعمل في صحيفة القبس، ليغادر بعد ذلك في العام 1985 إلى لندن حيث واصل العمل في تلك الصحيفة بالمراسلة وفي لندن راحت رسوماته تزداد حدة. ذاك الذي كان يتنبأ باغتيال صلاح الدين إن عاد كناصر جديد كان يعرف أنه يتنبأ بأنه سيموت ذات يوم إما قتلاً وإما انتحاراً.
وفي الثاني والعشرين من تموز العام 1987 كانت رصاصات غادرة لم يحاول أحد أن يعرف مصدرها، لأن رسوماته أقضت مضاجع الكثيرين، حتى استسلم للموت ليتحول إلى أسطورة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 181