هند مرشد هند مرشد

أطفال.. ولكن..

أكثر ما يؤثر في الإنسان هو طفولته، بكل ما يصاحبها ويرافقها من أحداث ومتغيرات! فكل ما مر عليه في طفولته، يلعب دوراً في تشكيل شخصيته ونظرته للحياة، وموقفه من الناس والمجتمع والدولة والأخلاق، إنه يحدد إيقاع حياته في المستقبل…. !

وبما أن الطفل يتأثر بما يقدم إليه، فإن كيانه يتجزأ حسب المؤثرات التي تعرض لها أو اكتشفها بغريزته، ويكون لباقي المؤثرات فيما بعد الطفولة تأثير طفيف على تفاصيل وأجزاء شخصيته التي تكون قد تحددت فعلاً منذ نعومة أظفاره...
طفولة الإنسان هي بيئته بكل مضامينها وتناقضاتها، بكل سلبياتها وإيجابياتها ... فالإنسان ابن بيئته التي ولد فيها، تنمو مداركه من خلال ما يراه، ويسمعه، ويحسه ويتعلمه فيها!
والإنسان السوي هو الطفل الذي يكون قد نما وترعرع في بيئة طبيعية وصحية، وليست بالضرورة مثالية..!

ليس القصد من هذه المقدمة، (التنظير).. أو استعراض قراءات متنوعة في علم النفس والاجتماع وسيكولوجية الطفل، إنما أردت جعلها مدخلاً لمناقشة موضوع هام، ومؤثر في حياتنا وفي حياة أجيالنا القادمة بشكل عام، وحياة أطفالنا ومستقبلهم بشكل خاص.
إنه موضوع التسول والتشرد عند الأطفال واليافعين، هذه الظاهرة الاجتماعية المرضية التي تفشت في مجتمعنا، وبدأت تنذر بالخطر...!

ترى ما سبب انتشار هذه الظاهرة؟ وأين يكمن الخطأ في بيئتنا الاجتماعية المحيطة، الذي يدفع بأطفالنا إلى الشارع؟
أطفال متسولون بأشكال مختلفة، منهم من يبيع الكبريت على مفارق الطرق، وآخرون يشترون لوازم بالجملة ليبيعوها بالمفرق على الأرصفة، وذك الطفل الذي يخبىء علب السجائر الأجنبية المهربة في جيوبه وداخل قميصه، وآخر يسرح بصندوق خشبي معلق في رقبته يفرش عليه بضاعته المتنوعة، وثالث يقف على شارة المرور يروج لنوع معين من المناديل الورقية.. والأواني البلاستيكية…!

ماسحو الأحذية الصغار ومنظفو السيارات، وبائعو البسطات، والعتالون والحمالون والمتسولون بمصاحف صغيرة وآيات قرآنية كريمة، متسكعون يعرضون على المارة أنواعاً مختلفة من الخدمات والأشياء ، مشردون وبائعون من كل نوع ولون..
تعددت الأساليب والتسول واحد.. والأصح تعددت الأسباب والموت واحد، لأن التسول في حقيقته موت وحكم بالإعدام على مستقبل الأطفال، وخسارة رهانهم على حقهم في طفولة سعيدة وآمنة…!
حكم الموت هذا يشترك المجتمع بكل فئاته أفراداً وجماعات، أنظمة وحكومات، أحزاباً ومؤسسات بتنفيذه… ويمشي الجميع بعد ذلك خلف الجنازة…!
طفل اعتدت رؤيته على ناصية الشارع أمام بيتي، ممزق الثياب وجائع دائماً لأنه كلما رآني طلب مني ثمن الطعام وحين سألته مرة أين يسكن وماذا يعمل؟ أجابني أنه لا مكان محدداً يقيم فيه، فهو ينام كل يوم بمكان، فمرة عند أمه المطلقة من أبيه والمتزوجة من آخر حين يسافر هذا الآخر، ومرة عند أبيه المتزوج أيضاً من أخرى حين يكون معه مبلغ من المال يسكت فيه زوجة أبيه الظالمة، وفي أوقات أخرى ينتقل بين بيوت الأقارب، وأكثر الأحيان لا يجد مكاناً يلجأ إليه فيبيت في الشارع أو على سطح أحد الأبنية.. وهو يلتقط رزقه حسب الظروف…!
طفلة في الثانية عشرة من عمرها تساعد بعض الجارات في أعمال البيت مقابل أجر لا بأس به. سألتها: كيف يرضى أهلك تشغيلك وأنت بهذه السن؟ قالت لي أن والدتها متوفاة منذ خمس سنوات، وأن أباها أخرجها من المدرسة حين تزوج، لتساعد زوجة والدها في تربية أخوتها الصغار، ويوفر بذلك والدها على نفسه مصاريف تعليمها، ومنذ سنتين أجبرها على العمل في البيوت يوم الجمعة لتساعد في المصاريف..!

وهناك تلك المرأة الخمسينية التي طرقت بابي ذات صباح شتائي ماطر، تجر بيدها طفلة في الثالثة وعلى كتفها طفل لم يكمل عامه الأول، تطلب حسنة، بعد إلحاح ووعيد وتهديد لتقول الحقيقة! اعترفت لي: بأنها ليست أمهم ولا هم أطفالها، فأولادها كبروا الآن واستقلوا عنها وبدؤوا يتسولون لحسابهم، وحين لم يعد أحد يعطف عليها ويعطيها حين تركها أولادها بدأت تتسول منفردة، واضطرت لاستئجار أطفال جارتها المريضة والفقيرة، والتي لا تقوى على إعالتهم بعد أن دخل زوجها السجن، فالكبار من أولادها العشرة  يعملون في أعمال متفرقة لا تسد الحاجة، والصغار تؤجرهم لمن يدفع أكثر، ولا يشغل بالها أن ثيابهم الصوفية البالية إن ردت عنهم البرد فهي لن تحميهم من المطر وما يسببه من التهاب الرئة وغيره.

والمرأة الثانية التي تفترش الأرض منذ سنوات وحولها أطفال ثلاثة أكبرهم في الرابعة، حفاة عراة ونياماً طوال الوقت... كأنهم أموات.
والثالثة.. التي تحمل طفلاً هزيلاً وتنقله كالخرقة البالية من كتف لكتف وهي تستوقف السيارات وتمد لهم يدها بوصفة طبية لا يظهر فيها اسم طبيب ولا اسم دواء أو تاريخ، فقط ختم أزرق باهت، تستعطف بكل الدعوات من يفتح شباك سيارته لإعطائها ثمن الدواء الوهمي لابنها الرضيع..!
ورابعة وخامسة وعاشرة، ولكل واحدة طريقتها وأسلوبها وأدواتها الخاصة للتسول والتي غالباً ما تكون أطفالاً صغاراً...!

لحق بي أحد الأولاد وهو يرجوني أن أشتري منه آخر علبتي «شكلس» مكرراً عبارات حفظها من كثرة ما رددها: «بوس إيديك- بوس رجليك- الله يخليك- الله يوفقك- خذيهم مني بقد ما بدك- جوعان- بدي اتعشى».. وعندما حدثته علمت أنه يمارس التسول أو ما يسميه بيعاً منذ ثلاث سنوات ليساعد أمه الأرملة في تربية أخوته السبعة، أصغرهم في الرابعة يسرح معه أحياناً لكنه مريض.. وأخوه الأكبر سجين في قضية تهريب أدوات كهربائية بعد أن صادرت الجمارك البضاعة التي كان يبيعها على الرصيف، وأخواته البنات يعملن مع الأم في تنظيف البيوت..!
إن حالات التسول المنتشرة والتي لم يعد بالإمكان حصرها تعكس الحالة الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية السيئة والمأساوية التي وصلت إليها الطبقات الفقيرة في مجتمعنا..!
والأزمات الاقتصادية طالتنا كما طالت غيرنا من المجتمعات في العالم بأسره والتسول أحد نتائجها حيث تنخر الأزمات في الجسد الضعيف دوماً، وأجساد أطفالنا هي الجزء الأضعف دوماً.
تبدأ المشكلة في الأسرة وتنتهي في المجتمع مما يجعلنا مطالبين بحس عال من الوعي والمسؤولية لمواجهة ظاهرة التسول، باحثين عن أسبابها للحد من انتشارها ومعالجتها من أجل القضاء عليها.
ومن سبل الحل القانونية معالجة القصور والتخلف في قانون الأحوال الشخصية الذي يجعل من الأولاد ملكاً لآبائهم يصنعون بهم ما يشاؤون ويعطي الولي حق تأديبهم دون ضابط وحق تشغيلهم وحرمانهم من التعليم والتأهيل المهني فالابن ملك لأبيه وله حرية التصرف به، وحتى قانون إلزامية التعليم لايقيده لأن سلطة الأبوة أقوى عرفاً في مجتمعنا.
إن الدولة مدعوة إلى معالجة هذا الوضع من خلال المؤسسات المعنية بمعالجة الوضع الاجتماعي للأطفال بالتعاون مع أجهزة الإعلام لتأهيل أجيال قادمة حقيقية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
175