مسرح العرائس.. وفن المسرح الأسود
فن العرائس فن واسع ورحب، ولد وتطور عبر التاريخ ليخاطب الكبار أساساً وتحوله شبه الكامل نحو المتفرج الصغير لا يعني تبخيساً لهذا الفن أو انحداراً في مساره أو تنازلاً عن أصول المسرح وتقنيات فن العرض، بل هو تطور وارتقاء.
والعرائس ارتبطت بخيال الإنسان وفكره منذ طفولة العقل البشري، إذ تعرفت عليها جميع الحضارات، وكانت أسبق من الإنسان في اكتشاف التمثيل، فهي الأولى بلا منازع في قائمة الفنون التعبيرية عبر التاريخ، وتتنازع جميع الحضارات ميزة أسبقية ظهور العرائس لديها، والراجح أنها ظهرت بشكل تلقائي لدى جميع الحضارات باستثناء بعض الأنواع مثل عرائس(خيال الظل) و( العرائس المائية)، فالأولى ظهرت في الصين، والثانية في فيتنام، وجميع العرائس لدى مختلف الحضارات تتخذ سمات وخصائص البيئة التي نبتت منها والمناخ الثقافي والأدبي العام الموجودة فيه، لذلك نجد أن عرائس كل حضارة لها سمات مستمده من جذور هذه الحضارة.
والعرائس تطورت عبر التاريخ واستفادت من التقدم التقني والعلمي أسوة بالمسرح البشري، بل كانت في طليعة الفنون التي واكبت النهضة الثقافية والعلمية في فترة ما بين الحربين العالميتين، ومن هنا تحولت إلى فن عالمي راق له أسسه وركائزه، وعندما نتحدث عن تاريخ فن العرائس لا نقصد به تلك الأعمال الموجهة للصغار فقط، بل نقصد نخبة الأعمال المسرحية والأدبية المتعارف على أهميتها عالمياً. ففن العرائس ولد مع الكبار وما زال يخاطب الكبار والصغار.
وفي فترة متأخرة من تطوره ومع بروز التيارات الحديثة في المسرح تبلور تيار تجريبي ما لبث أن أثبت نفسه وترسخ كأحد الأنواع العرائسية المتعارف عليها (وهو المسرح الأسود)، واعتمد تطور هذا التيار على تطور فن الإضاءة وترسخها كعنصر هام وفاعل من عناصر العرض المسرحي على اختلاف أنواعه.
أيضاً اعتمد على تطور نظام الألوان وظهور اشتقاقات لونية جديدة لم تكن معروفه سابقاً إضافة إلى ظهور تيار التجريب والتجديد في المسرح بشكل عام.
والمشهد في المسرح الأسود يعتمد على بروز الشكل في الإضاءة فوق البنفسجية، فهو تقنية إضاءة وأشكال تبث رسالتها من محيط مظلم.
أما لاعب العرائس فهو كما بمسرح العرائس التقليدي لا يظهر، إلا أن اختفائه يختلف هنا، فهو لا يختبأ خلف(بارافان) أو ستارة، بل يغرق في الظلمة التي تحيط به من كل جانب، وهذا يقوي عنصر التواصل بين – الممثلين اللاعبين – مما يرفع درجة الإحساس بالوهم لدى الجمهور، وبالتالي ترتقي ملكة تذوقهم الفني مما يوصل إلى التأثير المطلوب.
والشكل أو الكتلة في المسرح الأسود لا تشابه الأشكال في مسرح خيال الظل التي تعتمد على الأشكال المسطحة البسيطة التي تنعكس ظلالها على الستارة، بل تكون الكتل والأشكال في المسرح الأسود متوهجة في الظلام، إذ توجه عليها بشكل عمودي أو أفقي بقع ضوئية فوسفورية، والدمى أو الأشكال تكون مطلية بالألوان الفسفورية مما يجعلها متوهجة ضمن الفضاء المسرحي، وهذا يتيح للمخرج رؤى تشكيليه لا تحققها له باقي الأنواع المسرحية، ومن هنا تنبع خصوصية هذا اللون المسرحي، فهو يتفوق على المسرح الآدمي ويقترب من فن السينما، ويسلب منها أهم خصائصها (السينماتوجرافية)!!
إضافة على ذلك يتيح هذا اللون إمكانية التجريد في جميع عناصر العرض المسرحي، وهذا لا يعني أن باقي أنواع المسرح لا تتيح ذلك، ولكن نؤكد على هذا العنصر هنا لأنه يتخذ بعداً جمالياً وتعبيرياً مختلفاً، فالكتلة المعلقة في فراغ مظلم بامتدادها الحركي تتحول إلى خط، والخط قد يستحيل إلى دائرة، واللون قد تتبدل صفاته حسب سرعة حركته، والثابت المتوهج في الظلام قد يبدو متحركاً ...الخ..
هذه المعطيات وغيرها تتيح للمخرج المبدع إمكانيات فنية وتقنية كبيرة في رسم مشهده، وتضع أمامه كنزاً من التقنيات المشهدية.
إن طبيعة المسرح الأسود وإمكانياته التعبيرية المتنوعة تنحو بالمخرج غالباً نحو الشرطية والتجريد، فهو لا يتقبل الكتل الكبيرة والديكورات المكتظة والمزدحمة.. إنه مسرح شرطي بامتياز.
وربما كانت هذه الشرطية أحد أسباب انعدام وجوده في مسارحنا، فليس من السهولة أن تعطي الأشياء المألوفة مسميات جديدة واستخدامات مختلفة، وأن تجعل للشيء الواحد وظائف متنوعة، وهذا ينسحب على جميع عناصر العرض المسرحي.
المسرح الأسود فناً ليس سهلاً وليس بمتناول الجميع، ولا أظن أننا بحاجة أن نسوق دواعي عدم وجوده على مسارحنا إذا عرفنا أن ما يقدم للطفل من ثقافة عبر وسائل الإعلام المعروفة لا يتعدى الاثنين بالمائة، والبعض- وأنا منهم- يشك في أن هذين الاثنين بالمائة هما ثقافة جيدة ومفيدة للطفل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 283