قصتي مع الشيوعية

عندما انتسبت إلى الحزب الشيوعي السوري في أوائل عام 1974 لم أكن قد تجاوزت السابعة عشرة من عمري. دخلت إلى صفوفه وأنا ضعيف الثقافة، عديم التجربة، قليل المعرفة. ولكن يحدوني أمل بأنني مقبل على تجربة ثرّى سوف أتمكن من خلال انتسابي تحقيق الثورة الاشتراكية مع باقي رفاقي في الحزب. وبمنتهى الإخلاص والوفاء انهمكتُ بتنفيذ المهام التي تطلب مني؛ حضور الاجتماعات الحزبية، كتابة الشعارات على الجدران، توزيع بيانات في الشوارع، جمع تبرّعات، سفر إلى القرى والبلدان لإيصال المطبوعات، مساهمة فعّالة في التحضير للاحتفالات التي ينظمها الحزب..

كل ذلك دون أي خوف أو شعور بالتعب أو انتظار كلمة شكر. ومع هذا لم أكن راضياً عن نفسي وكنت أشعر بالحرج من أنني لم أتذوّق سياط الجلادين في السجن كبقية المناضلين. حتى بات اعتقالي أمنية عزيزة أتمنى تحققها اليوم قبل الغد. ولكي تترسّخ لديّ معاناة الكادحين من جهة، وللحصول على بعض المال ليعينني في نفقات الدراسة من جهة أخرى، بدأت خلال الصيف أعمل بمهنٍِ شتى (طيّان، عامل في معمل بلوك، دهّان، عتّال في الميناء...) وأنا في غاية الحبور والسعادة.
إلا أن سلسلة من الإحباطات صفعتني خلال وجودي في الحزب والذي قارب الثمانية عشرة عاماً جعلتني أعيد النظر في مسألة الانتماء بشكلٍ عام. ولعلّ أبرزها تلك التكتلات التنظيمية والانقسامات المتتالية التي عاشها الحزب، والتي وضعته في دوامة من المهاترات والاتهامات والادعاءات.. عطّلت وأخّرت مسيرة الحزب سنوات كثيرة إلى الوراء. وأبعدته عن القيام بأهم وظائفه وعلى كافة الصعد. ما أدّى إلى انحساره وترهّله وانفضاض الجماهير من حوله.. وبات شغلنا الشاغل ولسنوات طويلة هو: أيّ الفصائل يا ترى يحقق الشرعيّة؟ وهل ستأتي برقية الاعتراف من الحزب الشيوعي السوفييتي (البوصلة الأممية لأغلب الأحزاب الشيوعية) لهذا الفصيل أم ذاك؟
وكم كنتُ أشعر بالضيق والحرج لدى قيام الآخرين بسؤالي: من أيّ جناحٍ أنت؟
ومن خلال معرفتي بالرفاق وفي مختلف الفصائل الشيوعية تبين لي أنهم لا يتميزون كثيراً عن بعضهم ولا عن غيرهم من البشر في الأحزاب والتنظيمات السياسية الأخرى؛ فمنهم الانتهازي والمنافق ومسّاح الجوخ والغبي والمتعصّب والقليل الثقافة... ومنهم المبدئي والنزيه والمثقف والمنفتح على الآخر والصادق بانتمائه والمستعدّ لتقديم أغلى ما يملك في سبيل الحزب والوطن.
وسط هذه العواصف الانقسامية التي شلّت الحزب بكل فصائله لبثتُ متأملاً باحثاً متسائلاً وانكببتُ من جديد على دراسة التجربة التنظيمية والفكرية والسياسية للحزب وخلصتُ إلى النتائج التالية:
من المعروف أن كل شيء في الحياة يتعرض للشيخوخة وربما الموت. ودائماً الحياة تكون حبلى بأفكار جديدة. فالماركسية التي نشأت وترعرعت في أوروبا الغربية بظروفها الاقتصادية الخاصة جداً خلال القرن التاسع عشر (ثورة صناعية، بروليتاريا، صراع طبقي محتدم...) لم تعد المعطيات التي أثمرت النظرية الماركسية هي نفسها اليوم. فقد تخلل العديد من الأفكار والقوانين والمقولات الماركسية، سمات جديدة. فهل البروليتاريا بخصائصها ودورها وثوريتها... والتي عوّل عليها ماركس وإنجلز مهمة تغيير المجتمع، باتت هي نفسها في عالم اليوم؟ هل فعلاً البروليتاريا ما زالت أكثر ثورية من غيرها (المثقفين، الطلاب، فقراء الحرفيين...)؟
هل ما زالت البروليتاريا تمثل الشريحة الأكثر وعياً وعدداً وحضوراً في المجتمعات البشرية هذه الأيام؟ هل الحامل الاجتماعي للتغيير الديمقراطي هي البروليتاريا بمفردها أم كافة طبقات الشعب؟ هل "ديكتاتورية البروليتاريا" والتي هي شكل من أشكال الدولة في المرحلة الانتقالية إلى الاشتراكية، مازالت كشعار، مقبول وصحيح وتتفق مع معطيات العصر؟
هل مفهوم "الأمة" مازال الماركسيون يعتبرونه وليد تطور الرأسمالية؟ أم أن الأمة وليدة تطور تاريخي طويل قبل الرأسمالية ولن تزول بزوالها (شعوب أوروبا الشرقية كمثال...)؟
هل ما زالت "السرّية" في التنظيم الحزبي تنفع في بقائه سرياً فعلاً لدى الأجهزة الأمنية التي استطاعت عبر عقود من البطش والتنكيل من معرفة حتى جنس المولود في بطن أمه...؟
وهل العمل السري يجعل الحزب أكثر جماهيرية ويساهم أكثر في انتزاع الديمقراطية؟
وأخيراً، هل عمل الحزب ويعمل على تطوير النظرية الماركسية بما يواكب العصر، أم أن آمالي وأحلامي في ذلك وفي محاربة الظلم والقهر والفقر والحرمان.. أضغاث أحلام؟!!!
ترى، أيّ حزبٍ هذا الذي سيدحر الرجعية والإمبريالية ويحرر الأراضي المحتلة ويحقق الاشتراكية وهو على هذه الحال من التمزق والفرقة والسقم؟
أيعقل أن تختزل أهداف ونشاطات الحزب إلى تشويه الآخر وادّعاء الشرعية والمبدئية والثورية واحتكار الحقيقة، ويؤجّل النضال في سبيل الأهداف التي انتسبنا لأجلها إلى ما بعد الإجهاز على (أعدائنا) من الفصائل الشيوعية الأخرى؟
ترى، لو كان أحد هذه الفصائل في سدّة الحكم، ألمْ تكن دماء الرفاق من الفصائل الأخرى قد سُفحت في الشوارع كما حصل في اليمن الجنوبي وكمبوديا وغيرهما من البلدان؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
284