حاوره: كمال مراد حاوره: كمال مراد

الفنان الضوئي الغرافيكي خالد عبد الواحد في معرضه «تنزيلات»: قمة السخف أن يساوي الإنسان سلعة!

سقطت الأسئلة التقليدية أمام المعرض غير التقليدي «تنزيلات» لفنان الغرافيك الضوئي خالد عبد الواحد.. الذي استطاع أن يبث عبر مساحات اللوحة لغة إنسانية شفيفة جمعت بين التصوير الضوئي والغرافيك.. وتعتبر تجربته إضافة ملفتة في هذا الاتجاه الجديد للفن التشكيلي في سورية.. ضمن رؤية تحمل أطروحة فكرية وليست عملاً فنياً مجرداً..

»تنزيلات».. هو عنوان معرضه الأول الذي أقيم في معهد «غوته» في دمشق.. «تنزيلات».. عندما يصعد كل شيء ويسقط الإنسان في مطبات الحياة الاستهلاكية التي أنتجها الجشع الرأسمالي.. حيث أصبح الإنسان سلعة.. وأي سلعة.. سلعة رخيصة.. رخيصة.. رخيصة.. ضمن هذه الرؤية، كان «لقاسيون» اللقاء التالي مع الفنان عبد الواحد:

* طرحت الأساطير القديمة والأديان «قصة الخلق».. نراك اليوم تقرأ هذه القصة برؤية جديدة لإنسان اليوم. هل هي صرخة أم رفض.. أم بحث.. أم ماذا؟!

قصتي.. هي الإنسان

** بكل بساطة، أقول؛ أن هدف هذا المعرض غرافيكي بحت، وليس معرض تصوير ضوئي.. والغرافيك يحمل خاصية متميزة بالفن، فهو الفن الذي يتصل بالمتلقي بصرياً لإيصال الفكرة.. وتطرقت للعديد من المسائل بشكل مباشر ، لأنها تحتاج لذلك، كما تطرقت لأمور حسيّة يمكن أن تشكل مسألة خلافية في رؤيتها وتقديرها...

إن قصتي هي الإنسان، وموضوع الخلق لدي ليس اتجاهاً مركزاً، بل الإنسان بكل عفويته وبساطته... نحن نسمع عن ضرورة التوازن البيئي.. وكيف يبتلع الثعلب الدجاج حفاظاً على هذا التوازن... والسؤال المطروح: هل الإنسان ضمن هذه الدائرة أيضاً؟!.. نحن نُباع ونُشرى يومياً.. ولا داعي لأن أتحدث عن واقع القيم الإنسانية ضمن سوق النخاسة الواسع.. بل أحاول أن أوجه بعض الرسائل الرمزية من خلال أعمالي عن الوقائع المأسوية التي يعيشها الإنسان...

يقولون أن التاريخ يعيد نفسه.. ولكن إذا أعاد نفسه في المرة الثانية يكون أكثر بشاعة من الأولى.. وهكذا.. ومأساة الواقع الإنساني تتكرر آلاف المرات.. من هنا اخترت هذه الرؤية..

* لقد حلَّقت بعيداً ضمن اختزال مفردات عناوين اللوحات.. حيث تشكل أسماؤها ومدلولاتها مقولة، أو رسالة ذهنية مكثفة تفضح تشييء الإنسان وتسليعه..

لا تفقه، لا ترى، لا تتكلم!!

** اللوحات تعكس واقع وقيمة الإنسان بعد أن حولته آلة المجتمعات الاستهلاكية الاستغلالية إلى مجرد سلعة.. حيث يقرر شخص واحد مصير وطريقة تفكير مجموعة كبيرة من الناس.. وهو لا يكترث إلاَّ بمصالحه الشخصية، بينما يعمل لأجله الآلاف من الصباح وحتى المساء ولا يعودون لبيوتهم إلا َّ للنوم.. وهكذا كل يوم.. حيث يتحول الإنسان إلى مجرد (روبوت) بعد أن أفُقد إنسانيته وأصبح عاجزاً عن محاكمة نتائج عمله، لمن تذهب، وهل هي مفيدة أم ضارة بالإنسان والبيئة معاً.. وهكذا حوّل الاستغلال جموع الناس إلى آلات لا تفقه، لا ترى، ولا تتكلم وعبر وسائل قهرية واستدراجية يسقط الإنسان في هذا المطب اللاإنساني..

وهناك لوحات أخرى تأخذ منحى فكرياً أكثر عمقاً، وتخاطب الأحاسيس الإنسانية العميقة، وتزرع الأمل بالرغم من الحقائق الموضوعية المعاشة..

* غطى الجسد الإنساني مساحات أعمالك.. ولم تظهر الطبيعة إلاَّ بلوحة «الولادة»: يد متعبة مرفوعة.. غيوم داكنة.. طريق أسود ممتد نحو الأفق...

الظهر المكشوف.. و«الأنا» الخطرة!

** الموضوع له علاقة بعلم السلوك في علم النفس، فلغة الجسد هي الأصدق بكونها لغة غير مسيطر عليها.. وتتم السيطرة عليها بالتدريب.. ولا أعتقد أن ستة مليارات إنسان سيتدربون على هذه اللغة، باستثناء القلة القليلة... وإذا نجحت السيطرة على لغة الجسد تبقى هناك معضلتان أساسيتان، وهما اليدان والظهر، والمعضلة الأكبر هي الظهر.. تركيز الجسد يكون دائماً في اتجاه المواجهة.. نستطيع أن نضع قناعاً من أجل المواجهة من الأمام، إلاَّ أن الظهر يبقى مكشوفاً وبلا حماية...

والتركيز يكون مشلولاً من الوراء.. أم الأيدي، فأي حركة نقيضة لها مع الكلمة، تضرب كامل الموضوع.. لذلك رغبت في استخدام هذه الرمزية للجسد الإنساني: الظهر واليدين..

وموضوع لوحة «الولادة»، بكل بساطة نحن نولد ونموت ضمن متوالية مستمرة.. فنحو كل مائة عام يموت جميع البشر الموجودين الآن ويتغيرون.. والغريب أننا نتوارث الكروموزومات من الأسبقين الذين ماتوا، تلك الكروموزومات تعطينا طرق الحياة نفسها في المجموعة البشرية التالية.. وهكذا، نحن نولد كجسد، وهناك نوع من (الأنا) يرافق هذا الجسد.. الأنا شيء رائع عندما يشعر الإنسان بأناه.. ولكن عندما نمسك هذه الأنا بيدينا ونتعرف عليها ونحاكيها، نجد أنها شيء خطير... فأكبر الأحزاب والدول انهارت بسبب هذه الأنا... وأكبر القضايا العالمية انهارت بالأنا.. لأنها تعبير عن الفردية المطلقة...

وضمن سلسلة اللوحات الموجودة في هذا المعرض، إذا ربطنا أسماءها بشكل متسلسل، نقرأ: (لكن، كفى، ولادة، الأنا.)!!

أحقية العيش أزلية.. لكنها تحمل شوائب غريبة تكرسها علاقات الملكية الاستغلالية...

*الأبيض والأسود هما لونا كافة اللوحات.. لماذا لونان فقط؟!

قوة اللون

**حاولت الابتعاد في معرضي الأول عن القضايا المطروقة والمعروفة، الجوع، الخيانات السياسية، المجازر والحروب.. كلنا يعرفها.. ونعرف كل شيء.. لكننا نسينا أن نعرف شيئاً واحداً، وهو الموّلد لهذه القضايا جميعاً.. وما أعرضه هو التشويه ـ البيع، السجين، صناعة الإنسان.. كلها قضايا عامة، ولكن عندما نفككها نجدها جميعاً منسجمة تماماً.. وعندما نجمعها نجدها خيمة كبيرة تغلف المسائل ببعضها بعضاً.. وهنا أحاول أن أعرف ماهيتها.. وهنا الفكرة تحمل نوعاً من الاتصال البصري الذي يمكن أن تكون هناك صعوبة في التقاطه إلاَّ من فئات محددة وقليلة، لذلك يجب أن أبسط لغتي الفنية، وبالتالي فإن اللون، وهذا ما أثبتته الدراسات الفنية والنفسية، له مدلولاته وتفسيراته... وهو يخلق بعداً لوحده، والفن هو في أن تخلق هذا البعد بلونين، وأسمى أنواع الغرافيك هو الذي يعتمد على لونين، وبالتالي لا يمكن خلق فكرة من لونين إلاَّ إذا كانت شديدة الوضوح لدى الفنان.. طبعاً هذا لا يعني أنني ضد تعدد الألوان، بل أحببت أن تكون بدايتي هكذا.. وفيما بعد يمكن أن أحكي عبر الألوان، ولكن بقضايا تنسجم مع اللون أكثر...

* أنت تخلق اللوحة.. فما الذي تخلقه اللوحة فيك؟!

** أؤمن كثيراً بما قاله الشيخ ابن عربي: «كل فن لا يفيد علماً، لا يُعول عليه»، المسألة بكل بساطة هي كيف يمكن للفن أن يفيد العلم، والعلم ليس مجرد تكنولوجيا، وليس الحضارة النهائية.. إنه أعمق من ذلك بكثير.. وفنان الغرافيك عندما يستطيع أن يوصل صورة أو معاناة معينة لجانب شمولي، فإنه يضع مخزونه الداخلي على لوحاته، ويُعلم الآخرين بالمناطق السوداء الموجودة بداخلهم ويشير إليها.. والفنان التشكيلي الحقيقي يعلمني بحسه من خلال لوحته دون أن أكون قد فهمتها كاملاً.. ولكن هذا الإحساس يولدِّ فكرة يتقبلها العقل الباطني، وأتصرف بها بلا وعي مسبق...

هناك ممارسات قهرية تمارس على الإنسان بشكل عام.. ومن خلال الإعلانات الرأسمالية وطرحهم الفكري للقضايا الساخنة، والتلاعب اللفظي وعلم اللسانيات التي يستخدمونها يشوهون الحقائق ليدفع الإنسان ثمنها.. فالعامل في أمريكا إنسان معدم ومقهور.. ونحن للأسف لا نرى إلاَّ دعايته فقط، ولا نراه بحد ذاته...

يقول ابن عربي: «السماع في الإيقاع وفي غير الإيقاع لا يُعول عليه» فيجب أن يكون لكل موضوع نوع من الترابط والانسجام.. فالفكرة تصل من خلال لوحة، ولكن من خلال لوحتين تصل أكثر، الكلمة تصل بجملة، والجملة تصل بالسطر، والسطر يصل بالكتاب.. وهكذا.. إنه موضوع متكامل..

يقول «بيير داكو»: «أفضل طريقة لمواجهة عقدك وترسيخ فكرك أن تتكلم بصوت عالٍ لتسمعه آذانك»..

أنا أعطي لوحاتي شيئاً من داخلي.. وهناك فهل ورد فعل بين الأشياء... أنظر للوحة الخارجة من أعماقي فتفعل فعلها بي... وبالتالي تصبح هي، أي اللوحة، مرآة لذاتي تعرفني أكثر على نفسي...

* هناك مقولة معروفة تقول: أن الفن هو إعادة إنتاج للواقع.. ما هو الواقع الذي تعتقد أنك أعدت إنتاجه من خلال الصورة الغرافيكية؟!

التكاتف الواعي للفنون

** الفن هو مسألتان: الأولى إعادة النظر بالواقع، وإنتاجه من وجهة نظر أخرى، والثانية، إنه من المفروض أن يكون الفن حاملاً لرسالة، فالفنان الذي يصب أحساسيه ومشاعره على اللوحة، هناك العديد من الناس الذين يشاركونه بها.

ويبقى السؤال: هل استطاع أن يضع يده عليها، أم لا؟!..

الفن يحمل عدة جوانب، فهو يعيد هيكلية الواقع وتشكيله، والواقع واقع، إنما يتم تغييره ضمن مرحلة تاريخية، وليس بشكل فوري.. وأشهر الأسماء في عالم الفن التي نعرفها، مثل بيكاسو، وسلفادور دالي.. الخ.. وهم عظماء في الفن، لم يغيروا مسار البشرية من خلال أعمالهم... ولكن بمجموعهم أعطوا للبشرية صفة جديدة وسامية.. وهنا لا أحاول أن أقدس الفنان وحده، وإنما أقدس أصحاب الفكر والرسالة بشكل عام.. لأن الريشة هي عبارة عن أداة، كما الكاميرا والقلم.. وبالتالي عندما تتكاتف كافة أنواع الفنون بشكل واعٍ، يمكن لها أن تعيد تشكيل الواقع، ولكن إذا تكاتفوا باستعراضية، عندها نعود لمطب التنزيلات مجدداً...

* هل يمكن أن تقوم في لحظة من اللحظات بإعادة تشكيل مجمل لوحاتك من خلال تمزيقها، كانعكاس لشدة تمزق الحالة الإنسانية؟

من يبيعنا.. من يشترينا؟!

** طبعاً ممكن، فكما ذكرت في البرشور: بقع بيضاء ترصف على رقعة من ظل غير منتهٍ، ترسم لنا هلوسات آنية تعجز أما خفايانا الداخلية، تشير لنا بكلمة سخيفة (سلعة)..

 

قد أكون درجة من درجات السُّلم، ولكنني لست السُّلم.. قمة السخف أن يساوي الإنسان سلعة.. ولكن من يبيعنا ومن يشترينا؟! مضطر أن أحكي عن سخف أراه أمامي.. هكذا ببساطة..

معلومات إضافية

العدد رقم:
153