الفراغ!

الفراغ!

الفراغ هو الخلو، لكن من ماذا؟ يُشتق فعل «فرغ» في معجم المعاني من يَفْرَغ ويَفرُغ، فَراغًا وفُروغًا. فرَغ الإناءُ: خلا. انتظر بفارغ الصَّبر: بصبر كاد ينفد. وبهذا يُستخدم مصطلح الفراغ كنقيضٍ للامتلاء، وهو تناقضٌ ينحاز لصالح المُعبأ، المُكتمل، ذو القيمة، مقابل معاكسه الذي يشير إلى العدم والخلو. وكحال المتناقضات جميعاً؛ الظل والنور، السواد والبياض، الخير والشر، هناك إيجابٌ وسلب، والفراغ يُجّز بلا شك في جانب السلب. 

 

قد يكون وضع الفراغ في خانة السلبيات، مجحفاً، لأن حياةً ممتلئة حتى الحافة، لا يمكن تخيّلها، بل لا يمكن عيشها. ذلك أن الفراغ هو الحيّز الذي يتيح للرغبات مجالاً كي تتحرك وتتفاعل وتبدّل أماكنها. ودون تلك المساحة، لا حركة، بل سكونٌ مطبقٌ  وموت.  

في الهندسة المعمارية، ينال الفراغ ذات الاهتمام التي تناله الكتل المعمارية، بحيث تصبح أي حُجرة جزءاً تم اقتطاعه من فراغٍ غير محدود، وفق المفهوم الذي أرساه الفيلسوف الألماني هيجل في محاضرات تعود إلى عام 1820. والفراغ المعماري مقتطع من الفراغ العام، بحيث يعتبر دون مبالغة لُبّ التكوينات المعمارية. دون فراغ، كانت الأبنية مجرد جدارٍ أصمٍ مغلق. واللغة دون فراغ كلمة واحدة طويلة لا نهائية، مُتعبة وخالية من المعنى. ودون الصمت في المسرح لا معنى لما سيخرج من فم الممثل، فالسكنات والصمت هي فراغات اللغة. 

ومن بين تجلّيات الفراغ جميعها، قد يكون «وقت الفراغ» المفهوم الأعقد في استجداء حكم قيمة، وينظر إليه باعتباره الوقت الذي يمكن للإنسان فيه اختيار النشاط الذي يريد أن يقوم به، أي لا يكون ملزماً بعمل شيء مثل: الدراسة أو أداء مهنة، وهو بذلك وقتٌ حر ومساحة للتنفس. 

من جهة أخرى، يستعمل مفهوم الفراغ كنقيضٍ للعمل، ففي المجتمعات البدائية لم يكن ممكناً التمييز بين المفهومين، حيث كان ينظر إليهما باعتبارهما متمازجان داخل مسيرة الحياة اليومية. وفقط مع الثورة الصناعية في القرن السابع عشر، بدأ الناس يفصلون تماماً بين العمل والفراغ. 

واليوم، في عالمٍ تشكل فيه الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السمة الأكثر وضوحاً للحياة المعاصرة. يعود لمفهوم «وقت الفراغ» أهميته المحورية، فهو المدى الذي يمكّن المرء من شحن جسده وعقله بالطاقة استعداداً لجولة جديدة من الصراع مع المتطلبات التي تظهر كل يوم. 

وفي الوقت الذي تبدو فيه، أن الحاجة أكثر ما تكون ملحة للشعور بالفراغ بمعناه الإيجابي، كمساحة يمكن للأفكار من خلالها أن تتحرك وتتنظم. يبدو الفراغ المُعاش اليوم مكتظاً ومزدحماً ومغلقاً. 

«أين ذهب الفراغ؟» هو سؤالٌ يغري بالبحث بالمعنى الاجتماعي والنفسي. من تناقضات العصر، أن تكون وحدتنا (وهي المعادل الموضوعي لمفهوم الفراغ بمعناه النفسي والعاطفي) وحدةً من النوع المزدحم. هو فراغٌ محشوٌ بالصخب والضجيج. 

ربما تتحمل وسائل التواصل الاجتماعي حصتها من الذنب، في تكريس وقت فراغ مشوش ومضطرب، يُعطّل بمرور الساعات فاعلية المرء، حينما يتقلص تدريجياً الحيّز الذي يقضيه هو مع نفسه. في السابق، كان الناس أقدر على تطويع عزلتهم، لمجرد الاسترخاء، أو للخروج بانتاجات فنية وثقافية، ما كانت لتكتمل في واقعٍ مزدحم ممتلئ. يزداد خوف الناس اليوم، من البقاء وحيدين مع أنفسهم، وحيدين تماماً، دون هواتفٍ ترن، أو صناديق رسائل افتراضية تزدحم بالمحادثات والرسائل. وبالرغم من أن مشاعر الوحدة والفراغ قد تكون اليوم أكثر شيوعاً من أي وقتٍ مضى، إلا أن العزلة التي تنتج عنها عقيمة، وملوّثة.

مَكمن الخطورة في ذلك كله أن الآلية التي يتم فيها ملء وقت الفراغ، تؤثر تراكمياً على وقت العمل، أو اللافراغ، بحيث يصبح  المرء فيه أقل إنتاجيةً وتركيزاً. يبدو الأمر كما لو أن الفرد يدور في حلقة مفرغة؛ يخرج منهكاً من «وقت فراغٍ مزدحم» ليدخل إلى وقت عملٍ مرهق مزدحم. هي إحدى سمات الحياة المعاصرة؛ إنها تخلق أشخاصاً وحيدين، متعبين، غارقين في الفراغ ويشكون بأنهم لا يمتلكون ما يكفي منه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
787