ميساك باغبودريان: الموسيقا هي مرآة للواقع الذي يعيشه الإنسان

ولد عام 1973 في دمشق ، وتخرج من «المعهد العالي للموسيقا» عام 1995، وأتم دراسته في قيادة الأوركسترا في إيطاليا، وهو يقود «الفرقة السمفونية الوطنية السورية» منذ عام 2003، كما يعمل مدرساً في «المعهد العالي للموسيقا».

مايسترو، من الواضح أن هناك غياب شبه كامل للحديث في الموسيقى في وسائل الإعلام بشكل عام، مع بعض الاستثناءات القليلة.. أين المشكلة برأيك؟
برأيي المشكلة هي الانفتاحة الجديدة في وسائل الإعلام التي تتجه نحو العمل السهل الذي يمكن أن يتقبله الجمهور بسرعة دون بذل أي جهد، يعني معظمها تتعرض معظم الوقت لمواضيع سطحية جداً على سبيل التسلية والاستهلاك.
إن تقديم الموسيقا الجادة ينطوي على مسؤولية. والعمل يبدأ من التسجيل الجيد، الإخراج الراقي للعمل، وطريقة عرضه وهذا يكلف ويستنزف وقتاً وجهداً كبيراً، وبالتالي تخشى وسائل الإعلام الخوض في هذا المجال. الموضوع بحاجة إلى تحضير ممتاز حتى تتابعه الناس، ومعظم الشركات التجارية التي تبث الإعلانات التي تموّلها هي ليست مهتمة ببرامج كهذه،  وبالتالي الوحيدة التي يمكن أن تدعم هذا المجال هي وسائل الإعلام الرسمية أو التي لديها دعم حكومي، وهذه الوسائل هي الأكثر تقصيرا برأيي.
وفيما يتعلق بالصحف، فالصفحات الثقافية بشكل عام فقيرة وخالية من أي مضمون، وقراء الصحف تعودوا على الاهتمام بالمواضيع العامة، مواضيع يومية سريعة، وهي بالنسبة لهم أهم من موضوع الموسيقى، وهذه المشكلة تنطبق أيضا على الفن التشكيلي والأدب.
 
آخر حفلة لكم كانت مع أوركسترا طلاب المعهد العالي للموسيقا ضمن مشروع «موسيقى على الطريق» في الحدائق العامة ،الكثيرون تفاجؤا أن الجمهور جلس ليستمع، ويستمتع بالموسيقى.. المميز أيضا الطريقة التي تحدثتم بها مع الناس، لقد كسرتم هذا الحاجز التقليدي ما بين فرقة كبيرة تعزف موسيقى كلاسيكية وبين الجمهور، برأيكم ما مدى أهمية استمرار هذا المشروع... لا أن يكون موسمياً؟؟
 لقد كان رأيي أنه يجب أن نصل نحن إلى الجمهور بشكل مباشر، فوسائل الإعلام لا تصل إليهم، لا تقدر أن توصل الرسالة لهؤلاء الناس. ليس ذنب هؤلاء الناس عدم اهتمامهم بالموسيقا الجدية. الناس تعرف الشيء الذي يصلها بسهولة ضمن ضغط الظروف اليومية المعيشية. عندما ذهبت إلى الحديقة ونظرت إلى الناس، قلت: إذا أسمعنا الناس الموسيقا دون الدخول في استفاضات الشرح نكون قصّرنا في إيصال أفكارنا للآخرين. لذا أعطينا تعريفات صغيرة ومبسطة للآلات والعازفين وقائد الأوركسترا. هذه التجربة تؤمن لهذا الجمهور فرصة التعرف لأول مرة على هذه الموسيقا مما سيدفعه للبحث عنها. لقد كانت بالنسبة لي تجربة أولى في سوريا، واستطاع الناس والمتفرجون أن يتفاعلوا معنا.
 
هناك جدل كبير نسمعه بين المؤلفين السوريين حول مستقبل التأليف عموما وفي سوريا خصوصا. هل يجب أن تكون الموسيقى التي نؤلفها «مقامية- لا مقامية»، «آليةـ غنائية»، هل ننطلق من التراث أم ننكره.. ما رأيك بهذا الخصوص؟
 أنا شخصيا مع تنشيط عملية التأليف سواء كان تأليفا مقاميا أولا مقاميا، أو باستخدام لغة «نيوكلاسيك» بغض النظر عن التسميات. أنا مع فكرة أن تكون هناك حركة تأليف، وقد كنت من الأشخاص الذين طلبوا من المؤلفين أن يكتبوا لأنه لن تصبح لدينا موسيقانا إذا لم تكن هناك تجارب، أوروبا اليوم تعيش حالة من التجريب والبحث. الموسيقا هي تفاعل مع الحياة، الموسيقا هي مرآة للواقع الذي يعيشه الإنسان. كل مؤلف يعبر بطريقته عن الشيء الذي يحسه.. عن المخزون المعرفي بداخله، البعض متعلق جداً بالتراث، وآخرون يروون في التراث أهمية ولكنه ليس كل شيء، وآخرون يرفضونه بالمطلق.. إن كل تأليف يخرج إلى النور هو تعبير عن البيئة التي خرج منها المؤلف، المؤلف السوري تؤثر عليه خبرته بالحياة وتجربته مع الموسيقا. عندما خرجت مدرسة «فيثينا» رحب بها البعض ورفضها البعض الآخر.. كانت تجربة.. المؤلفون الشباب يعبرون عن أساليب تعبير وتجارب قد نحبها وقد لا نحبها..
 بعد زمن يأتي اختصاصيون يدرسون هذه المواد ليعرفوا إن كانت جيدة أم رديئة؟! الفكرة هنا أنه يجب أن نكون منفتحين لهذه التجارب، ودع الزمن يقرر إن كان هؤلاء على صح أو خطأ. المؤلف يمتلك إحساساً ورؤيا مستقبلية، من المفروض أن يكون دليلنا.. إلى أي مكان نذهب.. أين وجهتنا؟!
 
بعد تجربتك في قيادة الفرقة السمفونية الوطنية منذ عام 2003  كيف تقيم مستوى الأوركسترا مع الأخذ بعين الاعتبار للظروف والمشاكل التي بات يعرفها الجميع، فيما يخص التمويل وأجور العازفين والمقر والعلاقة مع دار الأوبرا؟
 إذا عملنا ميزاناً بين الظروف والإمكانيات المتاحة والنتائج حتماً النتائج هي الرابحة.. هذا ليس رأيي فقط، بل رأي قادة الأوركسترا الأجانب أيضا الذين يأتون إلينا حيث يرون الفرق بين البروفة الأولى والبروفة الأخيرة، المشكلة الكبيرة لفرقتنا أنها بحاجة إلى المزيد من الثقة بذاتها. عندما يشعر عازف الأوركسترا أنه محترم والناس تقدّره برأيي ستكون النتيجة مختلفة.
هي حالة نفسية، نحن نشعر أننا نعمل لأنفسنا، وليس لأن الناس بحاجة لنا.. هناك حالة من الإحباط لدى الموسيقيين السوريين، فإذا استطعنا أن نتجاوز هذه الحالة ستكون النتائج جيدة جدا.
 
طيب نحن سمعنا عن حلول.. سمعنا أن السيد رئيس الجمهورية هو نفسه تدخل في هذا الموضوع.. أين المشكلة إذاً؟
 الذي لمسته نتيجة اجتماعات ولقاءات مع السيد الرئيس، الإرادة موجودة حتى تقوم الفرقة بعملها، المشكلة الكبيرة هي إيجاد صيغة قانونية للفرقة ضمن القوانين الناظمة في سوريا. أنا شخصيا لست مع توظيف العازفين في الفرقة لأن ذلك يسبب ترهلاً ويجب أن يكون هناك تجديد واختيارات دائمة، وإذا ذهبنا إلى موضوع العقود فهناك مشكلة إصابات العمل الخاصة بالموسيقيين وهي غير ملحوظة بالعقود، عليك أن تخرج بقانون جديد يخص أعضاء الفرقة الأوركسترا السورية. نحن أعددنا دراسة انطلاقاً من القوانين الموجودة في الخارج لكننا اصطدمنا بالقوانين عندنا. الآن نتوقع أن يتكلموا معنا لنقاش هذا الموضوع.
المشكلة الثانية هي حول تتبيع  «الفرقة السمفونية» لـ«دار الأسد للثقافة والفنون» لأننا إذا دخلنا إلى دار الأسد أصبح اسمنا «فرقة دار الأسد للثقافة والفنون».
أصبح لدينا حالة من ازدواجية الشخصية. يمكن كمرحلة مبدئية أن تحافظ الفرقة على اسمها وتتبع لدار الأوبرا ريثما يصبح هناك عدد كافٍ من الموسيقيين مع الزمن يشكّلون فرقة ثانية،  حالياً لا توجد أعداد كافية من الموسيقيين لتشكيل فرق جديدة.
العمل بحاجة إلى تشجيع للموسيقيين، يعني راتب عازف «الفرقة السمفونية» 10000 ليرة بالشهر، وبالتالي فإن الأهالي غير مهتمين بتشجيع أبنائهم لدراسة الموسيقا.. ولقد تحدثنا مع وزير الثقافة بهذا الجانب.

أنت أيضا مدرس في المعهد العالي للموسيقا تدرس حاليا مواد «التحليل الموسيقي وقيادة الأوركسترا والعزف الجماعي» كيف ترى مستوى المعهد اليوم؟
 الذي أراه أن المعهد العالي للموسيقى هو جزء من واقع موسيقى ثقافي موجود في البلد، العطل الكبير هو عدم وجود خطة. ظل المعهد هو المؤسسة الوحيدة الأكاديمية التي تحاول تبني شيئاً يماثل الموجود في أوربا.. يفترض أن يأتي الطلاب إلى المعهد ولديهم معرفة موسيقية تعادل البكالوريا.. ليس لدينا معهد أو مرحلة إعدادية وثانوية للموسيقى تؤهل الطلاب قبل المعهد. يجب أن يكون للمعهد مبنى حجمه ضعف المبنى الموجود حالياً لا توجد لدينا قاعات كافية.. كم أستاذ سوري لدينا عمل أبحاثاً موسيقية وحصل على درجات الدكتوراه في الموسيقى، كم كتاباً موسيقيا لدينا بالعربية؟ ثمة 22 دولة عربية ولا يوجد 22 كتاباً في تاريخ الموسيقا.
مؤسسة واحدة لن تعمل شيئاً، المعهد العالي وحده لا يستطيع تذليل الصعاب، أي معهد في الخارج عمره على الأقل 50 سنة، لديهم كتب عن فلسفة الموسيقا وتراث هائل من الكتب والمراجع الموسيقية. أسمع كثيراً بمؤرخ وبباحث موسيقي من أين جاءت هذه الألقاب؟؟ القانون يحاسب من يمارس الطب مثلا بدون دراسة، لماذا لا ينطبق الأمر على الموسيقا؟ نحن نفتقر إلى كوادر علمية حقيقية.
 نسمع عن كثير من المشاريع الموسيقية التي تعمل تحت عناوين («حوار الحضارات»، «حوار شعوب حوض المتوسط»، «حوار شعوب دول المواجهة») مثل مشروع Music in me   أو مشروع دانييل بارنبويم. جزء منها ينشط في سورية، ما رأيك بهذا الموضوع؟
 أنا ضد كل شيء اسمه حوار ثقافات، حوار ثقافات معنى أنه أنت تتميز عني ومختلف عني. الثقافات غير متناقضة بل هي مكملة لبعضها، ومكونة للثقافة الإنسانية والتي من حق الجميع أن يقدموا لها وأن يأخذوا منها، لكن البعض، للأسف، مأخوذون بهذه المشاريع، وبعضهم يبحث عن تمويل أوروبي وجهات لها مصالح أخرى، وهناك أناس مأخوذون بالأجنبي لكونه أجنبياً، الفرق كبير بين العمل على تطوير مهارات الموسيقيين الشباب وبين ما يجري تحت عناوين «حوار الثقافات»!!
دانييل بارنبويم من الأشخاص الذين يملكون تاريخاً مجهولاً بالنسبة لي، ولا أظن أنه يبحث عن كسب موسيقي بل عن كسب شخصي. وبغض النظر عن اسم بارنبويم أو غيره. فأنا لا أفهم ماذا يعني تقريب وجهات النظر، فنحن نملك وجهة النظر الصحيحة تاريخياً، هل يعني أنه يجب أن يقتنع الشباب العربي أنه ربما اليهود على حق في فلسطين؟ أين هذه الطروحات الإنسانية وتقريب وجهات النظر من قتل أطفال غزة ومن حقوق الشعب الفلسطيني؟
 
*أخيراً.. ماذا تقول للجمهور المحبّ للموسيقا والراغب في تطوير قدرته على التذوق الموسيقي، خصوصاً في ظل الحرب التي تقوم بها وسائل الإعلام على آذانهم؟
 أصبح لدينا اليوم عدد جيد من محال التسجيلات الجيدة وأصحاب بعضها أشخاص يمكنهم تقديم النصح الجيد. كذلك أنصح باللجوء لطلاب المعهد العالي للموسيقا الذين سيقدمون كل ما يعرفونه لأن هذا يولد لديهم شعور اهتمام الناس بمهنتهم. الموسيقا ضرورية ومفيدة في كل وقت وليس في أوقات الفراغ فقط.