.. لكن بأية حال عدت يا عيد؟
يرتكز مفهوم العيد عموماً في الفلسفة والثقافة على أمرين: التكريم والبهجة اللذين يفترضان التجدد والتكرار، وهو ما سمي بالعود، ومنه جاءت التهنئة العربية «عساكم من عواده»، والمناسبة الزمنية التي تشكل سبب للاحتفال، وهي إما مناسبات دينية: «الفطر، الأضحى، الميلاد، رأس السنة»، أو إنسانية: «عيد الأم، الشهداء»، أو سياسية: «الاستقلال»، ومنها ما هو مناسبة فلكلورية بيئية أو عرفية تعيد تأكيد حالة التواصل المختصة بجماعة ما في تطورها القومي، كأعياد الربيع والحصاد، أو ذكرى موقعة حربية، أو حادثة تاريخية. وهذا الفهم لمفهوم العيد موجود لدى كل الأديان والملل والقوميات
ولكن للعيد بعد آخر يجاوز مفهوم العيد التقليدي. ففي فهم الفلسطينيين منذ نكبة عام 1948 ونتائجها التي أوجدت على الأرض قضية بلاد محتلة؛ وشعب لاجئ مشتت في مشارق الأرض ومغاربها، وبالأهم ضياع صبغة الهوية الوطنية الواحدة عند هذا الشعب، وما خلفته رياح الأنواء، وظلم القريب قبل العدو على تكوين الفلسطينيين. أخذت تتبلور في العقل الجمعي الفلسطيني رؤية جديدة لمفهوم العيد مرتبطة بالتحرر والعودة، وصولاً إلى شعار «عيدنا يوم عودتنا وإقامة دولتنا»، وهو ما انعكس بدوره على مصطلحات التهنئة والمباركة في الأعياد كـ«بالعودة والنصر».
وما لبث هذا الفهم أن أخذ بالتعمق والترسخ خصوصاً بعد كل نكبة جديدة أضيفت على سني عمر القضية الفلسطينية.. من مجازر الأردن.. إلى غزو لبنان 1982 وإخراج فصائل المقاومة من بيروت، وأخيراً وليس آخراً العدوان على غزة وتدميرها ومحاصرتها، بحيث تحول العيد فيها إلى باعث من بواعث القلق والهم في ظل الحصار الإسرائيلي الخانق على القطاع، ونقص المواد التموينية والسلع، والشح شبه التام في مقومات الصناعات الأساسية الغذائية والنسيجية، وان وجدت البضائع فهي بضائع مهربة عن طريق الأنفاق تباع بأضعاف أضعاف قيمتها الحقيقية.. و«من ما له جديد لا عيد له».. وكأن الحزن كان بحاجة لأسباب جديدة تضاف إلى أسبابه الكثيرة التي يملكها الفلسطينيون، وبالأخص الأطفال الذين ما عادوا يطمحون حتى بالحصول على حلوى العيد أو «العيدية النقدية».
التغيير الآخر في مفهوم العيد، العراق النازف احتلالاً وتناحراً طائفياً وسياسياً باسم الديمقراطية، ونهباً للثروات والتفتيت باسم الفيدرالية، ناهيك عما يعانيه الشعب العراقي من عوز وتشريد وغربة.
كل ذلك والأحوال العربية بألف خير.. فبعد واقعة الخرطوم الكروية «مباراة الجزائر ومصر»، وما خلقته من اصطفافات تناحرية وأحداث شغب، وغياب لأبسط أخلاقيات الأخوة والانتماء المشترك، وما سمعناه من تصريحات مقززة من الجانب المصري وصلت حد التبرؤ من العروبة، وإعلان تشجيع المنتخب الإسرائيلي، أضيف وجع جديد لمناسباتنا المتتابعة. وكأن الأحوال العربية المفككة والمضطربة إلى حدود القطيعة لم تكن بحاجة إلا لهذا الحدث البسيط نسبياً لتسقط آخر أورق التوت عن عوراتنا العربية. أجل، مباراة بكرة القدم أشعلت حرباً كلامية وسيلاً جارفاً من السباب والشتائم.. لكأن الخلاف غدا مسألة سيادة أو تحرراً وطنياً. بالإضافة للاهتمام المبالغ فيه من سلطات البلدين بمجريات المباراة ونتيجتها، حتى خيل لنا أن البلدين أنجزا بنجاح مسؤوليتهما تجاه قضايا الفقر، والبطالة، والأمية، والرعاية الصحية، والحريات السياسية في كل من مصر والجزائر.. ولم يبق لهما سوى التفرغ لشؤون كرة القدم.
لقد نسي الطرفان بكل أسف أن الفائز من كل هذا العماء الأهوج هو العدو الذي خصص ساعات طوال من إعلامه المقروء والمسموع لمناقشة المباراة ومجرياتها والسخرية من العرب.
أحد الحكماء قال: ما نفع اتساع العالم إن كان حذائي ضيقاً؟
كل عام ونحن بخير من نوع آخر..
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 431