بين قوسين فتّش عن النزاهة!
خنادق وخنادق مضادة. أينما اتجهت، ترى حاملي المعاول، يحفرون قبوراً . الفكرة المضادة بلطة في دماغ الآخر. طواويس بأجنحة غربان. قاطع طريق ببزة غاندي. ما يحدث ببساطة هو غياب النزاهة. في هذا المقام تحضرني فكرة للروائي باولو كويلهو، وردت في روايته»إحدى عشرة دقيقة» تختزل ما يجري اليوم :
«أتكلم عما يقلقني، وليس عما يحب الناس سماعه». ويضيف: «بعض الكتب تجعلنا نحلم، وأخرى تذكّرنا بالواقع، لكنّ أياً منها لا يمكنه الإفلات من أمر جوهري بالنسبة لكاتب: النزاهة التي يكتب بها».
أرغب في تفكيك هذه الحزمة من الكلمات التي تحتاج إلى قراءة عميقة على رغم بساطتها ووضوحها.. فكاتب لا يتمتع بقلق شخصي هو أشبه ما يكون بصاحب «سوبر ماركت» يبيعك كل الماركات على رف واحد أو على رفوف متجاورة، ذلك أن المهم هو قيمة الفاتورة التي سوف تسددها أمام الصندوق. ولكن أليس قلقي الشخصي هو قلق الآخر أيضاً؟
هذا صحيح من جانب فقط، فقلق الكاتب والمبدع عموماً يتعلق بكتابة حلم مؤجل، حلم عصي على التحقق، لكنه قابل للحياة في سطور كتاب ما، حلم يتعالى عما هو مألوف ومستقر، نحو فضاءات أخرى بعيدة، ومن هنا سأكتشف أن الكتب التي جعلتني أحلم، هي كتب قليلة ونادرة ، إذ إن باولو كويلهو ربط هذا الحلم العصي بالنزاهة التي تقع في مقام الجرس الذي يرن في وجدان الكاتب كلما انزلق نحو الهاوية!
كتابة الحلم إذاً مرتبطة بالنزاهة، وهي عملة نادرة اليوم، فهأنذا أتفرج على من كان يهديني الحلم يوماً ما، وهو يغرق في مستنقع آسن من الاجترار والابتذال وكأنه خياط في مؤسسة رسمية، يخيط ماترغبه المؤسسة بعد أن تعطّل خياله وانعطبت ذاكرته وهأنذا أكتشف أن الشاعر الأممي وقد تحوّل إلى مدافع شرس عن قيم عشيرته الضيقة وكأنه لم يغادر بيت الشعر الذي ولد فيه، وهأنذا أحصي خسائري في مؤسسة الحلم التي كان يديرها روائيون وشعراء ونقاد و مفكرون، وقد استقالوا جميعاً من هذه المهنة، بعد أن فقدوا نزاهتهم وتحوّلوا إلى كتبة في دكاكين الصحافة والفضائيات المنتشرة براً وجواً، وكأنهم جاؤوا من كوكب آخر متجاهلين حجم فاتورة الحلم التي تركوها خلفهم مثل لعنة مؤجلة!