من أين تأتي فتنة سليمان منصور؟
لطالما سألت نفسي هذا السؤال: من أين تأتي الفتنة في أعمال سليمان منصور؟ ثمة هنا تشكيلي يبدأ من الفكرة، أي من التجريد، ثم يطرح لوحته. لوحته- على الأقل في بداياته- فكرة. جمل المحامل فكرة. صحوة القرية فكرة. امرأة تحمل القدس فكرة. سطوح القدس فكرة. فكيف أمكن لسليمان منصور أن يتجنب هاوية الفكرة؟ كثيرون غيره انطلقوا من النقطة نفسها ذاتها: الفكرة، لكنهم فشلوا، وتحطموا. أكلتهم الفكرة، فلم ينتجوا فنا. فكيف نجح هو؟
اعتقادي أن نجاح سليمان منصور يعود إلى أمور ثلاثة:
الأول: أن جزءا من أعماله كان ابن اللحظة، بالمعنى الإيجابي لكلمة لحظة هنا. أي أن أعماله كانت، بشكل ما، هجسا بما تريده لحظة تاريخية ما. أو كانت تعبيرا عن أشواق هذه اللحظة البشرية. مثلا: لوحة جمل المحامل الشهيرة. فجمل المحامل كناية شعبية عن الرجل الذي يقوم بالعبء نيابة عن الآخرين، أو في غيابهم. التقط منصور الفكرة الشعبية وطرحها في لوحة. نقلها من المستوى اللغوي إلى المستوى التشكيلي. حولها من كلام إلى أيقونة. وبدا للناس في حينها أن هذا هو ما يريدون أن يقولوه. او بدا لهم أن كل واحد منهم جمل محامل في الحقيقة، يحمي القدس ويحمل عبء القضية. لقد اشتبك الفن هنا مع لحظته. صار جزءا منها، وصارت هي جزءاً منه.
ويشبه هذا ما فعله محمود درويش في قصيدة (سجّل أنا عربي)، أو في قصيدة (عاشق من فلسطين)، لكن مع فارق عقد من الزمن. ما طرحه درويش في الشعر، طرحه في التشكيل منصور. وأنا هنا لا أقارن بين طاقتي شاعر وتشكيلي، لكنني أتحدث عن اللحظة. كانت قصيدة (سجّل) اختصاراً للحظة، واعتصاراً لها. بدا وكأن هذه اللحظة لا يمكن لها أن تبدأ إلا بهذه الكلمات. فتنة القصيدة مربوطة باللحظة. لو وضعت في لحظة أخرى لكانت عبثا. وكذا الأمر في جمل المحامل.
لا يمكن للعين أن تخطئ النقاط المشتركة بين محمود وسليمان في بداياتهما. كأن سليمان أخذ على عاتقه أن يفعل ما فعله محمود في حقل آخر.
الثاني: اللون. من دون رقة ألوان سليمان ما كان للوحته أن تكون لوحة. من دونها كانت ستتحول إلى فشل. ألوان ريّقة هادئة لا تلوث فيها ولا اضطراب. خذ لوحة (صحوة القرية) مثلا. ثمة شعب بكامله من لابسي المناديل والحطات يخرجون من بين ساقي امرأة، أو من رحمها بشكل أدق. فكرة بسيطة جدا، ومباشرة جدا. فكيف أمكن لسليمان أن يستخرج منها لوحة؟ كيف أمكنه أن ينجح بهذه الفكرة البسيطة؟ إنها الألوان الريقة. فالناس ينزلقون من رحم المرأة بقوة اللون ولطافته، لا بأي شيء آخر.
ثالثا: تحدثنا أعلاه عن النزوع الأيقوني للوحة سليمان، في بداياته على الأقل. لكن ربما كان علينا أن نربط هذا بالروح الملحمية لأعماله. فنحن أمام أيقونات ملحمية. ثمة عرض ملحمي واضح في أغلب لوحات سليمان. ويمكن للمرء أن يقارن ذلك برسومات الملاحم الشعبية كأبي زيد الهلالي وسيرة بني هلال، بل وبحسينيات العراق. سليمان منصور يعرض عليك القصة من أولها في كل لوحة من لوحاته. في جمل المحامل مثلا تستطيع بسهولة أن تشير إلى عناصر القصة- الملحمة: المهة المتروكة التي تخلى عنها الجميع، انتظار بطل ليقوم بها، ظهور البطل- جمل المحامل الذي يحمل العبء، والذي يكون (قدها وقدود). جمل المحامل ليست لوحة فقط، بل هي ملحمة.
فن سليمان منصور فن ملحمي. وهو في هذا أيضا يشبه محمود دوريش في لحظاته الملحمية. نعم، ثمة نقاط لقاء بين (أحمد العربي) وبين (جمل المحامل). كلاهما يعرضان ملحمة، كلاهما يعرضان تراجيديا ما. كلاهما سيزيف إيجابي. صخرة جمل المحامل تشبه صخرة سيزيف. لكن جمل المحامل سيزيف لا يتملكه اليأس مثل سيزيف. إنه سيزيف متفائل. في حين أن أحمد العربي أقرب إلى أن يهتدي باليأس من اهتدائه بالتفاؤل.