زكريا محمد زكريا محمد

«بما إنُّو»: تدمير الكلام.. والبحث عن حبّ مختلف

(هذا مقال قديم جداً، كتبته بعد صدور شريط زياد رحباني «بما إنّو». وقد عدت له اليوم من جديد مصادفة، فأحببت أن أعيد نشره هنا. وقد تركته كما هو من دون أي تغيير)

 يعود زياد رحباني في شريطه «بما إنُّو...»، من جديد، إلى جوزيف صقر صاحب الصوت العادي والأداء الرّفيع. ففي منتصف السبعينييات أدى صقر لزياد أغاني مسرحية «نزل السرور» التي جمعت في شريط بالاسم نفسه. وقد لقي ذلك الشريط، أيامها، ترحاباً عالياً. فقد كان شريطاً رائعاً جمع بين روح الطرب العربي القديم والإيقاع الراقص، بين موسيقى الجاز والموسيقى العربية. وانتشرت بعض أغنياته انتشاراً لا مثيل له مثل أغنية «ع هدير البوسطة» التي تمكن فيها زياد بلحنه الراقص، من جعل الكلام العادي مقبولاً وشعرياً إلى حد ما.

وفي هذا الشريط وضعت بذور تطور زياد وتمرده اللاحق. لم يكن الجمهور وقتها معتاداً على سماع كلمات من نوع «في واحد عم ياكل خس، في واحد عم ياكل تين»، أو «في واحد هو ومرته ولُو شُو بشعة مرته». فقد كانت، بَعدُ، أغاني «في قهوة ع المفرق» و»قديش كان في ناس» هي القمم التي تأسر أذواق الناس. وجاء الشريط المذكور لكي يرمي حجراً في المياه الراكدة، مقدما عالماً صاخباً لا شبيه له، تمتّزج فيه الحيوية الشعبية الفياضة بالموسيقا الراقية. ولم يكن التغيير الذي حمله الشريط يقتصر على الكلمة، بل إنه حملَ في العمق، تغيراً في مفهوم الحب الذي تدور عليه الأغنية العربية. ففي مواجهة «إنت وبس اللي حبيبي» قدم الشريط مفهومه الصاعق للحبّ «وإذا رجعتِ من العشاق وعشقتيني شو عليك؟»، منهياً بذلك عدة الحبّ العربي القديم: الوفاء، الخيانة، العزال، اللوام، والحاسدين.
لكن ما كان بذره زياد في «نزل السرور» تحول إلى ثورة كاملة في «بما إنو...» بحيث يبدو لنا الشريط الأقدم كلاسيكياً محترماً ولا غبار عليه، رغم التغيرات التي جلبها إذا ما قورن بالشريط الجديد.
و»بما إنو...» خليط شيطاني من السخرية والسريالية والرغبة التدميرية الجامحة. ومن دون روح السخرية، ربما ما كان يمكن احتمال الرغبة التدميرية التي تهيمن على الشريط كله.
تبدأ الحكاية باسم الشريط ذاته «بما إنُّو...» فهو اسم منقطع لا ينبئ ولا يدل. لكنه مع ذلك يوحي بالغضب وطفحان الكيل، والرغبة في مواجهة أمر والرد عليه. وهذه الروح المنقطعة السريالية، غير المفهومة موجودة على مدار الشريط. فإحدى الأغنيات تبدأ بكلمة أو خطاب لا معنى له «ولقد.. فيطيب لي.. بأن.. فإن هذه الواقعة.. فهي إذن وقعت.. فقد تم تلحين هذا اللحن بعد أن وقعت الواقعة.. وكان ذلك عام 1975». هذا الكلام أشبه بالكلام المجنون الذي لا معنى له في أحد فصول مسرحية «في انتظار غودو». وليس ذلك بغريب. ففي العام 1975، بالذات، وقعت الواقعة، وكانت الحرب الأهلية، كان فقدان الترابط والمعنى.
وتشيع الرغبة التدميرية في الكلام، وفي بنية الأغنية، وفي تفضيل البروفة على الأغنية الناجزة. ففي الكلام يتم الإجهاز، نهائياً، على ما تبقى من روح رومانسية في الحبّ كانت ما تزال موجودة في «نزل السرور». ويصبح الكلام حطبة جافة قديمة. بل إن الكلام في أغنية «ليه عم تعمل هَيْك» يصبح مواءً وعواءً:
يا حبيب الروح شو عم بتسوي
ساعة بتخفف... ساعة بتقوّي
وأني شي نوّي وإنتَ بتعوّي
هذا الكلام العاري الجاف الساخر يمثل قمة الاحتجاج على الأغنية العربية. فزياد يحس أن من العار التمسك بعالم وكلمات الأغنية الرومانسية في هذا الزمن. فأن تبدأ أغنية بـ «تيجي نقسم القمر» أو «بعملك جوز مراجيح بين جفوني وجفوني»، إنما هو فضيحة وجريمة لا تغتفر. لذا فإن أغنيته تقول شيئاً آخر:
يا حبيب الروح شو عم بتسوّي
نايم تاركني عم ضوّي
يا عواطف حاجي تتلوّي
وفي السطر الأخير توضح الأغنية هدفها وتقول كلمتها: «يا عواطف حاجي تتلوي»، أي كفى ولتوقف الأغاني عواطفها المتصنعة، ولتترك للجفاف، الأشد إنسانية وطراوة في نهاية الأمر، لكي يعبر عن الموقف.
إذاً، فزياد يرمي من وراء ظهره بالأغنية العربية ورومانسيتها المنافقة. لكنه من وراء ذلك، أيضاً، يثور على تراث عائلته وعلى الغناء الفيروزي. فهناك يقع هدفه، لا عند الأغاني العربية البائسة. إنه يوجه هجومه إلى القمم لا إلى السفوح.
لذا يمكن القول أن شريط «بما إنو..» شريط لا رحباني ولا فيرزوي بشكل ما.
لكن زياد إذ يدمّر الحبّ القديم بضربات لا رحمة فيها، يحاول من ناحية ثانية أن يفتح الباب أمام حبّ جديد من نوع آخر في عالمنا المدمّر، عالم بقايا الحرب الأهلية اللبنانية، الحرب الأهلية العربية، وبقايا الحلم العربي الذي تحطم مخلفاً وراءه الضياع وفقدان المنطق. إنه يحاول. لكنها مجرد محاولات لا غير. تقول إحدى أغنيات الشريط:
قلتيلي حبيتك
لأنك زعلان بتضَلْ
وبتضَلْ مْنكْوَد...
فأي حبّ هذا؟ إنه حبّ زمن الحطام، حيث الزعل والنكد هما الباب الذي يمكن للحبّ أن يدخل منه. ولأنه كذلك فإنه حب مستحيل، حب لا يكتمل.
وْعُدّتي تْركتيني
لأني زعلان بْضلْ
وبْضلْ مْنكوَد
إنه حبّ غير ممكن. لكنه يعطيك إحساساً عميقاً بالورطة الإنسانية وبالرغبة في الخروج منها. إنه حبّ زمن الخراب. والشريط، إجمالاً، مرثية للعالم الخراب. «شو اللّي حصل لَقفْلَتْ ع الخراب»، هكذا يقول بيت عتابا مخلوط بالفرنسية في الشريط.
ولا يتوقف الأمر عند حدود تدمير الكلام وتدمير الحبّ، بل ان الأمر يصل إلى ضرب بنية الأغنية ذاتها. فأغنية «من الأفضل إنك تحتشمي» هي أغنية اللا أغنية. إنها مجرد حوار عادي يكاد يكون موقعا. بل إنها مشهد مسرحي لا غير، لكنه مشهد سريالي غريب ومخيف، يطلب فيه رجل من المرأة التي تجالسه أن «تحتشم» لأن هناك ضابط يراقبهما:
من الأفضل إنك تحتشمي
في زابط مَدْري كم نجمة
لكن المرأة لا تكترث مطلقاً وتقول دون غناء تقريباً:
أنا هيك قاعدة
ما راح غيّر قعدتي
والرجل يحذرها «أخذوا اسمك أخذوا اسمي».
وينتهي المشهد بأن يتم اعتقال الرجل فيما تقول المرأة لمعتقليه: ما بعرفه. لأ. ما بعرفه.
من الواضح أن العلاقة مستحيلة والحبّ مستحيل ينكر فيه الواحد الآخر. كما أن الأغنية ذاتها أغنية مستحيلة. إنها شبه أغنية، أو بروفة لمشهد مسرحي من مسرح القسوة والعنف.
وزياد رحباني مغرم بالبروفات. بل لعله يريد أن يحوّل الأغنية إلى بروفة، إلى مجرد اقتراح. فالأغنية المكتملة الحاسمة ليست هدفه على الإطلاق كما كان الأمر في «نزل السرور». الأغنية في ذلك الشريط كانت مكتملة وقادرة على أخذ مكانها في الفراغ، بقوة، مثل تمثال حجري. أما في «بما إنُّو...» فالأغنية مجرد محاولة، بروفة قد تنجح وقد تفشل. إنها معلقة ويمكن إلغاؤها أو العودة إليها مستقبلاً. في «نزل السرور» كانت الأغنية تتويجاً للمشهد المسرحي وقمته. في «بما إنو...» فإن الأغنية تخسر نفسها لمصلحة مشهد مسرحي.
ولأن زياد رحباني مغرم بالبروفات، فقد رأيناه يسمعنا بروفات ألحانه لوالدته فيروز في شريط «كيفك إنتَ»، هذا الشريط الذي بدا مفاجئاً وغريباً، ثم ما لبث أن شاع وأصبح أليفاً. ولقد كان غريباً لأن الناس أحست أنه انتزع فيروز من سياقها وأجوائها ووضعها في جو السخرية والتدمير. من أجل هذا فقد أحس كثير من الناس أن فيروز «تبهدلت» في هذا الشريط، وفقدت خصوصيتها. لكن هذا الانطباع سرعان ما تعدل. ومع ذلك ظل هناك إحساس ما بأن في الشريط شيئاً يتعاكس مع تاريخ صوت فيروز، إن صح لنا قول ذلك. هذا التاريخ هو الذي جعل الناس يشعرون، دائماً، أن أداء جوزيف صقر لأغنية «عهدير البوسطة» أفضل من أداء فيروز لها. فصوته أقرب إلى مناخات الأغنية الضاجة من صوت فيروز.
تدمير الكلام، والبحث عن كلام آخر أكثر جفافاً وأقل نفاقاً. تدمير الحبّ القديم وعدته، والبحث عن حبّ مختلف وسط الدمار، تدمير الأغنية وتحويلها إلى مشهد ساخر. هذا ما يفعله زياد رحباني في شريط «بما إنو...» والأشرطة التي سبقته. وهو في هذا يثور، أولاً، على تراث عائلته. فالخروج من المناخات القديمة والمجيء بمناخات أخرى أكثر تلاؤماً مع الحياة يقتضي، كما يقال في علم النفس، قتل الأب. وزياد يقتل موسيقا أهله ويتمرد عليها.