بَس اللي امضيع وطن.. وين الوطن يلكَاه..
هنا دِمَشق..!
قبل أكثر من خمسةٍ وثلاثين عاماً جاءت إلينا الـ(حبّابَة) شمسة، أي جدتي باللهجة الفراتية، من قرية موحسن قبل أن تصبح مدينة..
جاءت للعلاج وبقيت أياماً، وذات صباحٍ انتبهنا إليها وهي تبكي بحرقةٍ.. فتفاجأنا وخاصةً أنها كانت لدينا محبوبةً ومعززةً ومكرمةً وهي اسم على مسمى ولا يمكن أن يفكر أحدنا بإزعاجها.. والمفاجأة الثانية أنها كانت تبكي وهي تستمع لأغنية المبدع العراقي سعدون جابر..
«اللي مضيع ذهب بالسوكَ الذهب يلكَاه..واللي مفاركَ مُحب يمكن سنة ويلكَاه..بَس اللي امضيع وطن وين الوطن يلكَاه.!؟».
واستغربنا ذلك وقد كنا صغاراً..!
ومنذ عام وأنا أحاول مع والدتي أن تنتقل معنا إلى بيتي الجديد الأكثر براحاً وراحةًً، لكنها ترفض باصرار أن تترك بيتها حتى تموت ولتخرج منه إلى المقبرة.. وأنا لا أستطيع أن أنتقل وأتركها وحدها..!
وفي كلّ صباح أستيقظ وأنظر إلى اليمامة التي تستكين في عشها على الشجرة في الشارع، وهي تهدِل وتكادُ تغفو آمنةً مطمئنة وكأنها تُسَبّح لوجودها في هذا المكان..
هذه المواقف ذكرتني بسنوات الغربة.. وكيف كنّا نسهر حتى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل لنستطيع أن نلتقط الإذاعة السورية بعد أن تصفو الأجواء، وتغمرنا فرحة عامرة ونحن نسمع صوت المذيع أو المذيعة، هنا دمشق، وكأنّ الأثير حملنا على أجنحته وأسرى بنا إلى السماء وعرج بنا إلى الوطن في غمضةِ عين..!
وتعود بي الذاكرةُ أيضاً إلى سنوات الطفولة والمدرسة في الستينيات، عندما كانت تصدح حناجرنا الصغيرة، وتملأ الساحة والحي في الصباح بالنشيد الوطني «حماة الديّار» و«بلاد العرب أوطاني»، وننشد «فلسطين داري ودرب انتصاري»، ونقسمُ للجزائر بالساحقات الماحقات، ونجمع لها مع أهالينا مؤونة الشتاء.. ولم نكن نُمَجّد شخصاً كما هو الحال الآن وإنما كنا نمجد الأوطان، وقد أصبح ذلك نسياً منسياً.. بل أنّ أغلب الأنظمة العربية تتآمر على سورية..
سورية وطننا ذو التاريخ والحضارة.. وحيث أول إنسانٍ استوطن على وجه الأرض..وأول إنسان زرع، وأقدم أبجديةٍ وأقدم عاصمةٍ.. وكلّ الطرق كانت تمرّ عِبرَ دِمَشق.. لذا لا عجب أن قال عالم الآثار الفرنسي الذي اكتشف ماري:
لكل إنسان في العالم وطنان.. وطنه الذي نشأ فيه وسورية..
الوطن.. سورية الأرض.. والعِرض.. يبدأ من كل زاويةٍ فيه.. من عشّ اليمامة وبيت أمي وقرية جدتي .. هو البرية والحقل وهو السهل والساحل والنهر والمدينة والجبل..
والوطن ليس الأرض فقط.. فلا وطن بلا شعب.. والشعب مني ومنك ومن والدتي وجدتي وأقاربي وأبناء حيي وقريتي ومدينتي.. وأبناء الشعب السوري العظيم بتاريخه وحضارته وعاداته وتقاليده..
والوطن والشعب يبقون عزيزين مهما جرى.. ألم يقل الشاعر..
بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ وأهلي وإن ضنوا عليّ كِرام