لقاء مع النحات مصطفى علي   انحدار الفن مرتبط بالسعي وراء النقود العمل الجيد يفرض نفسه بقوة

بدأ مصطفى علي مشواره في عالم النحت مع البرونز، فأقام أول معرض حديث للبرونز في سورية، ثم راح يتجول عبر عوالم المادة فيستقي من كل ما تقع عليه عينه مادة يشكلها ليخلق مزيجاًُ جديداً ونوعاً جديدأً يضيفه إلى عالمه النحتي، مصطفى علي الذي ابتعد عن القوالب الجاهزة واستطاع أن يبتكر لنفسه أساليب متجددة، ليخلق أيقوناته الخاصة برز من خلالها  كواحد من النحاتين القلائل في الوطن العربي،  فحفر اسمه داخل سورية وخارجها.

مصطفى علي الذي يعيش حالياً متنقلاً بين إيطاليا وسورية، والذي تخرج من كلية الفنون الجميلة في دمشق ليتابع دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة في كرارا... تنتشر أعماله في الكثير من دول العالم في مجموعات خاصة، ومعارض ومتاحف عامة. التقيناه في مشغله الكائن في ركن الدين الذي تعبق فيه رائحة أخشاب تحكي قصصاً بأزميله، ورائحة البرونز ومعادن أخرى التقيناه وكان هذا الحوار:

 ■ تتهم بأنك مسؤول بشكل أو بآخر عن تنميط الكثير من الفنانين والنحاتين الجدد بأسلوبك ؟ 

●● إذا كان هذا اتهاماً فأنا لا أستطيع أن أجيب بالكثير، إلاّ أنني أستطيع أن أقول أن جميع  الفنانين يستقون من بعضهم بعضاً، وهذا أمر طبيعي في عالم الأدب والفن، بأن يتأثر المبدعون ببعض، أما إذا كنت تقول أن هناك تقليداً، أُجيب بأنني لم أفرض أسلوبي أو طريقة عملي على أي أحد، فأنا لست أستاذاً في جامعة أو معهد ، بل كل ما في الأمر أنني أحاول أن أستضيف عدداً من الفنانين الجدد في مشغلي، الذي يستقطب الكثيرين، كمتدربين ومساعدين، وخلال هذه العملية يحدث نوع من الاحتكاك المباشر بيني وبين بعض من هؤلاء الفنانين،  وربما يحدث تشابه مع بعض هذه النماذج التي تتحدث عنها، ومرد هذا إما قلة موهبة او أن هؤلاء  يسعون وراء السهولة في النحت، فأنا نتيجة لعمل استمر منذ العام 1977 أحاول وأجرب بأساليب متعددة، ونتيجة لهذا العمل والتجريب فتحت طريقاً  هذا الطريق وهؤلاء يريدون أن يقطفوا الثمار دو ن تعب أو محاولة، وهناك أسباب وراء ذلك بالطبع. المؤلم أنني عندما أرى نحاتاً متميزاً أعطيه بكل طاقتي وأحاول أن أدعمه بكل السبل لكنك تكتشف أنه بعد خروجه سيكررك، ولن يستطيع أن يشق لنفسه أسلوبه الخاص، لكن ذلك لن يوقفني عن دعم الفنانين الشباب، ودفعهم إلى الأمام. 

■ أنت عضو في لجان تقييم الأعمال الفنية في عدد من المهرجانات الفنية ، يقال أن مصطفى علي جعل النحاتين ينحتون بهدف الجائزة  وبالتالي بقيم ومفاهيم جمالية معينة، مفروضة من قبل هذه اللجنة؟

●● أولاً أنا لا أعطي الجائزة لأحد إلاّ إذا كان شخصاً متميزاً ومختلفاً عني بالدرجة الأولى. فأنا مدرك لما تتحدث عنه ونحن نريد التفرد وخلق الجديد، في اللجنة لست شخصاً واحداً بل نحن مجموعة كبيرة نبحث عن فنان  يبشر بمشروع نحات أو مصور أو حفار.. إلخ.. 

أما إذا كان الفنان الشاب يطمح فقط للجائزة فأنا لست ضده، لكن لا يجب أن تكون غاية العمل الفني هي الجائزة فقط، فالجائزة لها شروط فنية، على الشاب والفنان أن يكون له أسلوبه وخطه الذي تستطيع اللجنة أن تقرأه بوضوح حتى تستطيع تقدير عمله المتميز وإن كان يبشر بمشروع فنان مهم، أنا لا أشكل لجنة، بل اللجان تضم مجموعة كبيرة من  الأشخاص وهناك طريقة معينة للتحكيم.

■ هل انت راض عن سوية الأعمال الفائزة في المهرجانات؟

●● سم لي واحداً؟

■ مهرجان اللاذقية على سبيل المثال؟

●● حسناً فلنقل مهرجان اللاذقية وأنا أعتبر هذا مثالاً مهماً، فأنا لم أكن عضو لجنة في هذا المهرجان، بل كانت اللجنة كبيرة جداً وتتألف من العديد من الفنانين وغالبيتهم من خارج سورية، شاهدت الأعمال قبل أن تعرض بتأن وروية، ورحت أدرس كلً منها على حدة، إلاّ أن الأمر كان جلياً وواضحاً، وانحصر اهتمامي بعملين هما كل من عملي محمد عمران، وباسل السعدي، وفعلاً فاز العملان بالجائزة، ولم يكن لي اي صلة بلجنة التحكيم ولا أي صلة مباشرة بالفائزين، لكن العملين الجيدين يبستحقان الفوز، لذا أنا راض تماماً عن هذه النتائج.

■ الكثير من فناني الجيل يتأثرون بأساتذتهم إلى حد كبير إلام تعزو التبعية الفكرية لفنان شاب بآخر معلم (باستثناءات قليلة)؟

●● الإسفاف الذي نراه في النحت أو الفن التشكيلي بشكل عام له علاقة بالإنحدار وتبعاته، وقلة موهبة، وبشكل أكثر صراحة الأشخاص الذين يسعون إلى التحصيل المادي فقط. ففلان من النحاتين بعد أن بذل جهداً كبيراً في الاشتغال على مشروعه الشخصي ووصل إلى مرحلة متقدمة وبدأ يجني ثمار ما زرع، يأتي شخص آخر يقوم بتقليد أو محاكاة مشروعه، ليعمل ويجني نقوداً بعيداً عن أي مشروع فني بأي شكل من الأشكال، وهذا موجود بشكل عام في تاريخ الفن ككل، هناك فنانون حقيقيون ومبدعون وهناك أتباع لهؤلاء الفنانين، لكن الفنان الحقيقي هو القادر على التجديد فيأسلوبه وأفكاره وطريقة عمله، يتابع مشواره ويحاول التابع دائماً اللحاق به، هؤلاء لا يعنون شيئاً بحركة الفن، والعمل بهدف النقود لا يصنع فناناً.

■ هل حدث تغير في منطق مصطفى علي في تعامله مع الفن منذ 10 سنوات  حتى اليوم؟

●● لم أتغير أبداً أنا جداً حر في تعاملي مع عملي الفني.

■ لكن لوحاتك التي كانت تقيم قبلاً كعمل فني خالص أصبح هناك من يشتريها ليستخدمها لأغراض الديكور أو وظائف مشابهة بعيداً عن قيمتها الفنية الخالصة، ألم يؤثر ذلك في فهمك للعمل الفني؟

●● أنا لا يعنيني من الذي سيقتني العمل، يعنيني العمل نفسه وكيف سيخرج من مشغلي، أنا لا أعمل كي أبيع فقط، وهذه معادلة لا يفهمها الكثيرون أن أعمل  طاقتي كلها لأخرج عملاً متميزاً، هناك نوعان من الأعمال أعمال لها طاقة تعبيرية، وهناك أعمال الغاية منها أن يكون فيها روح خفيفة نوع من البهجة والفرح ربما يكون فيها جانب تزيني، وهذا العمل لا يقلل من قيمته إذا أردت أن تعمل موضوعاً عن الفرح، لست مضطراً لأن تضع حزناً للفرح، هذا جانب موجود في الفن، حتى عندي، وهناك جانب آخر له علاقة بتيمة معينة... تأثير المقتني لا يجب أن يكون سلبياً على إنتاج العمل الفني وهناك الكثير من الفنانين يقعون فيها، إذا كان الفنان واعياً ومدركاً لما يعمل فإنه لا يقع في مثل هذا المطب جميعنا بحاجة إلى الجانب المادي كي نتابع عملنا. لكن لدى الفنان أيضاً هم يجب أن يحافظ عليه، وبمجرد أن يذهب هذا الهم سيصنع الفنان أشياء تافهة. يتفاوت العمل الفني بين صعود وهبوط، ليست سوية الإنتاج الفني عالية دائماً بل تتنوع. لكن ليس على الفنان أن ينجرف وراء المادة بشكلها المجرد. 

■ ما الذي تغير في مصطفى علي خلال السنوات العشر الأخيرة؟

●● على صعيد التكنيك بدأت بالبرونز وربما كان أول معرض برونز في تاريخ سورية الحديث، وبذلت جهداً طويلاً حتى أصل إلى ما وصلت إليه، انتقلت بعد ذلك من البرونز إلى الحجر ثم عملت على موائمة البرونز مع الخشب، ثم أخذت موضوع الخشب الخالص الذي بدأت أبني منه أشكالاً  فيها طاقة تعبيرية كبيرة في مواضيع ترتبط بالبيئة، لقد شاهدت الدمار الذي يحدث في الغوطة من أخشاب مقطعة متآكلة ومنشورة، ورأيت في كل ذلك مرآة للمجتمع. أخذت هذه الأجساد المقطعة التي تتألف من حطب متآكل مدمر وبنيت منها هياكل تشبه هياكل بشرية منخورة ميتة، اجساد تراها يومياً تصدمك وتشعر بأسف وأسى حيالها، وتحيلك إلى الآلاف الآلاف من الصور التي تعيشها. يجب أن يكون الفنان شاهداً على زمنه وعصره، وسيخون نفسه وقيمه إن لم ير هذه الحقيقة.

■ ألم تبتعد أبداً عن بيئتك، من جهة الأسلوب؟

●● لا أبداً، فأنا كونت أسلوبي.. وأحافظ عليه.

■ لكن أعمالك كانت تعبر أكثر عن مواضيع أكثر حياتية ويومية والآن اتجهت في أعمالك إلى أبعاد أخرى؟

●● كان الحلم مختلفاً كان الحلم عندي كائنات ترقى كائنات مترفعة كائنات لا تحيا على الأرض ثم تحدث في حياة الإنسان صدمة، يتغير بعدها، تتغير أحياناً نتيجة مشهد. لقد كان لزيارتي لتدمر قبل سنوات الأثر الكبير في تغير أسلوبي وطريقة عملي خاصة الفن الجنائزي التدمري، الذي جعلني أرى الحياة بطريقة مختلفة.

إن هذا التغيير استدعى تغيراً في نوع وشكل المادة التي أعمل عليها، لأن الأفكار الجديدة لا يستطيع البرونز تحقيقها أو خدمتها، فاخترت مادة أخرى، أنا الآن أرى أن أي مادة مباحة كي أبرر لنفسي الهدف الذي أريد أن أحققه من القوة التعبيرية التي فيها.

 

■ حاوره: عمرو سواح