«صورة باريس» لمرسييه: تقلبات المدينة ومجتمعها عشية الثورة

«صورة باريس» لمرسييه: تقلبات المدينة ومجتمعها عشية الثورة

في المراسلات المتبادلة بين المفكر الفرنسي ديدرو والكاتب الألماني غريم (وهو واحد من الأخوين غريم اللذين أسسا لنوع لا يزال سائداً من أدب الأطفال)، ثمة اسم لكاتب يتردد بكثرة، اذ كان صديقاً مشتركاً للطرفين. ويبدو انه كان من الكتاب المؤثرين في ذلك الزمن. أو بالأحرى، كان صحافياً من الذين تمكنوا في ذلك الوقت المبكر من ابتكار أنواع جديدة من التحقيقات الصحافية.

اسم الكاتب لوي - سيباستيان مرسييه. وإذا نظرنا اليه اليوم من خلال ما هو مذكور عنه في المراسلات التي نتحدث عنها والتي تعود الى الربع الثالث من القرن الثامن عشر، سنجده «عقلاً لمّاحاً» و «شـــغّيلاً في الكتابة لا يمل ولا يكل»، وسنجد كتاباته جديدة من نوعها، وجديدة في تعاطيها مع المواضيع التي تتطرق اليها. أما هو فكان اعتاد أن يعرّف نفسه بأنه «أول كتبي في فرنسا» من دون أن يتضح ما الذي كان يقصده بهذه التسمية. المهم أن مرسييه كان صحافياً. بل إن أهل الصحافة نظروا اليه طوال القرن التاسع عشر، الذي حفظ له ذكرى طيبة، بصفته «رائد الصحافة الحديثة» في العالم. إذ من قبل مرسييه وابتكاراته، كانت الصحافة عبارة عن أخبار وأفكار سريعة وضروب هـــجوم ودفاع ومدح وثناء. أما هو، فإنه أدخل التحقيق - الذي سيعتبر مادة شديدة الحداثة والفاعلية بين مواد الصحافة لاحقاً -، والرصد والملاحظة، بالمعنى الذي تعرفه صحافة العالم، ولا سيما صحافة العالم الانغلوســـاكسوني، في القرن العشرين. ما يعني أن ذلك الصحافي قد سبق زمنه بنحو قرن ونصف القرن على الأقل، ومن المؤكد ان هذا التميّز هو الذي جعل اثنين من كتّاب زمنه يذكرون اسمه ومآثره في مراسلاتهما.

والمرء لا يحتاج، اليوم، الى تقليب ارشيفات صحافة ذلك الزمن، أو محاولة العثور على أعداد قديمة من صحف كانت تصدر في ذلك الحين للتيقّن من هذا. بل يكفيه أن يطلع على كتاب، هو قمة انجازات مرسييه أصدره في 12 جزءاً ضخماً بين العام 1781 والعام 1788، بعنوان: «صورة باريس»، ليكتشف سرّ شغف ديدرو وغريم بالكاتب. فالحال ان ذلك الاطلاع يكشف لنا ان مرسييه كان يرى ان المدينة «ليست مجرد شوارع ومعابد وأبنية وصروح» على رغم أهمية هذا كله لتكوين المدينة. المدينة بالنسبة الى «صورة باريس» هي «أهلها وأخلاق هؤلاء الأهل وعاداتهم... ناهيك بالأفكار المهيمنة في لحظة معينة، ووضعية الذهنيات والتقلبات التي تطرأ عليها على ضوء الأحداث والعلاقات المتنوعة». والحقيقة ان مرسييه للتعبير عن هذا كله، لم يكن من اولئك الذين يكتبون وهم غائصون في كتاباتهم وسط دفق من التنظير... بل كان مبدعاً عملياً - كما يجدر «بالصحافي الحقيقي أن يكون» كما قال عنه ديني ديدرو في واحدة من رسائله -. ومن هنا نراه يطبق هذه «النظرية» في كل سطر يكتبه، ما جعل بعض المقالات والتحقيقات التي وصف فيها الحياة الباريسية، «ذات فعالية نادرة» و «ذات قدرة على قول تاريخ الشعب والمدينة والعلاقة بين الاثنين لا تعادلها مقدرة أي نصوص أخرى». ولعل هذا ما جعل معظم كتاب القرن التاسع عشر من الذين كتبوا روايات مسلسلة - بخاصة - تدور أحداثها في باريس يستعينون بكتابات مرسييه، وخصوصاً تلك التي جمعت في أجزاء هذا الكتاب الثري.
إذاً بالنسبة الى مرســـييه يجب ان ننظر الى تاريخ باريـــس على انه تاريخ الباريسيين أنفسهم، تاريخ البشر أكثر مما هو تاريخ الحجر. والباريســـيون يظـــهرون في كل نصّ كتبه الرجل، وحتى حين نراه يكتب، مثلاً، عن البلاط. إذ ها هو يقـــول في واحد من تحقيقاته الشهيرة «ان البلاط متنبه تنبـــهاً ثراً الى أهمية الناس... ومن هنا نراه يصغي في شكل جيد الى ما يقوله الباريســـيون. وهم الذين يطــلق عليهم اهل البلاط اسم الضفادع؟ وهكذا مثلاً، ها هم الأمراء في كل تصرف يبدونه أو قول يتفوهون به يطرحون على أنفسهم سؤالاً أساسياً: ترى، ما الذي سيكون عليه رأي الضفادع إزاء هذا الأمر أو ذاك».
ويضيف مرسييه في هذا المجال قائلاً، بحسّ خفي من السخرية ولكن بقدر لا بأس به من الوعي أيضاً: «وحين يصفق الضفادع أو يخبطون يداً بيد لدى مرأى واحد من هؤلاء الأمراء، أو استعراض ما من الاستعراضات... لا يتردد الأمراء عن إبداء رضاهم». والحال أن هذا الكلام الذي يكتبه مرسييه كشاهد عيان عليه، يتناقض تماماً مع كل التأكيدات المتحذلقة التي كانت تقول إن الطبقة الحاكمة في فرنسا قبل الثورة لم تكن تبالي بالشعب وآرائه. ان مرسييه هنا، يؤكد ان الحكم الاوتوقراطي والملكي، كان مهتماً برأي الناس، ويقيس مواقفه تبعاً لذلك الرأي... ولسوف تثبت الأحداث لاحقاً ان ذلك النوع من الأنظمة كان أكثر تعبيراً عن ذلك الرأي العام، من الأنظمة الثورية، بما فيها ذلك النظام الذي انبثق من الثورة الفرنسية. طبعاً لا يعني هذا ان مرسييه كان من أصحاب الحنين الى العصور السالفة. فقط كان الرجل مرآة لعصره، وكان همّه ان يصوّر أحداث العصر والذهنيات التي كانت ذات الهيمنة عليه.
وفي مكان آخر، أكثر تماسّاً مع الشارع نفسه يكتب مرسييه، في واحد من تحقيقاته، ويتناول فيه منطقة فوبورغ سان مارسيل، التي كانت واحدة من أكثر المناطق شعبية وفقراً في باريس في ذلك الحين: «ان هذا الحي هو الحي الباريسي الذي يسكن فيه الباريسيون الفقراء والميالون الى أقصى درجات الفوضى. ومع هذا، فإن سكان هذا الحي هم أنفسهم الذين يملأون أيام الآحاد، شارع فوجيرار بكاباريهاته الكثيرة... ذلك أن على المرء أن يعيش حياة فسق لكي يشعر أنه يعيش... ولو يوماً واحداً في الأسبوع. وسكان سان مارسيل، يضيف مرسييه، هم أنفسهم الذين يملأون «صالون الحثالة» الشهير... حيث يرقص من دون هوادة وحفاة الأقدام، رجال ونساء، يحدث لهم خلال ساعة من الرقص أن يثيروا من الغبار في الجو ما يجعل رؤية أي شيء أمراً متعذراً».
وحين يتحدث مرسييه عن أوتيل - ديو، المســـتشفى الباريسي الشهير في ذلك الحين، لا يمضغ كلماته ولا يساير أحداً بل يقول في كل وضوح: «ان هذا المستشفى يعمر بكل ما من شأنه أن يجعله ملوثاً بالطاعون كل الوقت». وفي السياق نفسه، يؤكد لنا مرسييه هنا تأكيداً غريباً يتناقض مع ما تم التعارف عليه بخصوص الباستيل، إذ يقول لنا ان الناس لا يخافون الباستيل بقدر ما يخافون قصر شاتليه. صحيح ان ما من وسيلة تمكنهم من عبور أبواب ذلك الحصن، (الذي سيكون تدميره من الثوريين الفرنسيين، رمزاً لانتصار الثورة)، لكن الحصن لم يكن يخيفهم الى ذلك الحد الذي حوله رمزاً بعد ذلك. ولنقرأ مرسييه هنا أيضاً وهو يؤكد لنا في سياق مماثل أن باريس تعيش حرية دينية لا مثيل لها حيث ان «اليهود والبروتستانت والملحدين وأصحاب نزعة الحلولية الإلهية يعيش كل واحد منهم على مزاجه وعلى هواه. وقد توقفت النقاشات القديمة الصاخبة حول الأديان وبين أصحاب الأديان. صار ذلك السجال أمراً بائداً... وكان لا بد من ذلك، طبعاً، بعد قرون وقرون من الصراعات والسجالات الدينية».

نذكر هنا ان لوي - سيباستيان مرسييه (1740 - 1814)، أصدر الجزءين الأولين من «موسوعته» الاجتماعية هذه في مدينة نيوشاتيل، العام 1781، متعمداً ألا يحمل الجزآن اسمه... ومع هذا عرف الكل انه هو المؤلف، ما سبب له بعض المشكلات مع السلطات التي كانت ايديولوجيتها نفسها تقوم على أسس تتناقض مع ما في الكتاب. غير ان تلك المشكلات زالت بسرعة، حين راح الثوريون ورجال السلطة يلهون ببعضهم بعضاً، ما وفّر لعمل مرسييه نجاحاً طيباً. وقد واصل مرسييه نشر أجزاء كتابه الباقية، حاملة اسمه حتى عشية الثورة التي، من المدهش، انه هو نفسه لعب فيها دوراً لا بأس به...


المصدر: الأخبار