شهادات.. في ذكرى سعد الله ونوس «إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لايمكن أن يكون نهاية التاريخ»
سعد الله ونوس خالداً
■ الأديب محمود عبد الكريم:
■ في البدء كان القول.. وفي الختام تبقى الكلمة ديمومة القيم وفحواها الأخير.. إنه الإنسان.. رائعاً في كفاحه.. صلباً في اعتداده.. شهيداً أو شاهداً.. على الدنيا ومن فيها.. إنه الإبداع.. ذلك الألق القادم من جوهر الأشياء الأول.. مجده وخلوده. أن ينتمي للإنسان.. كي يطيل جناحه.. مقدار إصبع أو مقدار سماء.
■ فرغم الانكسارات وانهيار الأحلام والضباب الكثيف المحيق بنا وبالكون إلاّ أننا «محكومون بالأمل» صدق سعد الله ونوس.. مبدعاً ومناضلاً وإنسانا.ً فالمبدع أعطي مجد الكلمة.. والمناضل له مجد الاحتراق ليسطع في طريق الآخرين.. وللإنسان مجد انهاض الحياة من حفرة الموتى إلى حفرة الأحياء.. وفي كلها كان سعد الله ونوس جديراً أو مجيداً وباسلاً.
كان نموذجاً فذاً لصمود الإنسان في وجه غموض الاحتمالات.. ومقاوماً عنيداً لشروط العدم الفيزيولوجي البشري.. فلم يدع لقهر المرض أن يثنيه لحظة عن الإبداع.. هو في النهاية.. قبس رائع سيبقى مر الأجيال.. هاوياً ووسيلة للقتال المبدع من أجل حق الناس في الخبز والحرية والكرامة.. والسعادة.
■ إنه سعدالله ونوس.. وقد دخل في الأبدية.. خالداً.. مطرزاً بالمعاني الجليلة.. أزرق كاليمام.. مترفاً كالموج.. بهياً كالسحابة.. وله نقول: أيها المجيد البطل لقد حكمتنا بالامل وعلمتنا ألاّ ننحني حتى لشروط «العدم» الفيزيولوجي.. يا لك من نبيل. ولك أنحني إجلالاً.
كم هي أليفة الذاكرة
■ الأديب سحبان سواح:
كم هي أليفة الذاكرة وكم هي شديدة الحضور، حين يتعلق الأمر بإنسان تحبه، أو أمر جلل تذكرته للتو، فأنت لست مضطرا للبحث في ثناياها، أو محاولة التذكر واستجدائه كي يسعفك بلمحة من هنا وفكرة ما من هناك، بل هي تتدفق مرة واحدة وتصبح حاضرة في المخيلة وكأن ما جرى، بكل ما يحمله من معان، جرى بالأمس فقط مع أن الزمن الذي مر بينك وبين ما تتذكره للتو، هو أطول بكثير من حقيقته. فالزمن الذي يفصل بين موت سعد الله ونوس الحقيقي وبين الزمن المتخيل شاسع جدا. السنوات العشرون الأخيرة من عمرنا، من عمر الأرض، من عمر البشرية لم تكن سنوات بل كانت عقودا مضغوطة في سنوات، ولعل أفضل ما فعله سعد الله هو أنه لم يعش هذه السنوات، بل تركها لنا، تعذبنا ونتعذب بها.
أقول ذلك بعد أن طلب مني كتابة مادة ما عن الكاتب الكبير سعد الله ونوس، المشكلة التي واجهتني بداية هي أن كل من يكتب عن فقيد يضفي عليه من الصفات المضخمة والتي قد لا يكون يحملها حقا. ولكن خيال الكاتب يلعب دورا في إضافة صفات ليست في الحقيقة للراحل. وأردت أن لا أقع في هذا المطب، ولكن كيف وسعد الله ونوس عملاق في أدبه، عملاق في سيرته، وعملاق في سلوكه الإنساني، هكذا كنت أراه، فهل كان غيري كذلك، وهل أنا الآن أضفي عليه ما ليس فيه..؟ وهل كثيرون مثلي يرونه كذلك أم أن عددا لا بأس به يرى غير ما رأيت. إذن أين تكمن الحقيقة؟ وكيف نصل إلى المصداقية؟ سؤال يظل مطروحا في حالات مشابهة كثيرة ومن الصعب الإجابة عنه.
قلت أن الذاكرة تستحضر دفعة واحدة كل تلك العلاقات الحميمة الصغيرة والكبيرة، وكل المواقف، والأفعال، كل الذكريات دفعة واحدة وتضعها أمامك على المائدة وقد اخترت منها تلك الفترة التي كنا نحضر فيها لإصدار العدد الأول من مجلة الحياة المسرحية كيف كان سعد الله يتصرف بتلك البساطة والعفوية وكيف كان يستمع لك ويترك لك الفرصة لتعبر عن رأيك كاملا، وحين تكون لديه ملاحظة ما فهو يقولها بكثير من التهذيب وبكثير من التواضع، وحين تناقشه في أمر ما حول مقالة ما فهو لا يتمسك برأيه بل يقتنع مباشرة حين يكون ما تناقشه مقنعا.
أشترك مع سعد الله ونوس بتلك النظرة المتشائمة للحياة، فلذلك أبدو دائما متجهما، ليس لدي رغبة في إقامة علاقة مباشرة مع الناس الذين أتعرف عليهم حديثا ولذلك حين تعرفت على سعد الله وقبل أن نعمل معا لم تنشأ بيننا صداقة مباشرة بل بقينا لفترة طويلة مجرد معارف نلتقي ونسلم ودون أن تتمتن تلك العلاقة، حين التقينا أول مرة هو رئيس تحرير لمجلة «الحياة المسرحية» وأنا في هيئة التحرير قال لي لم أكن أحبك في السابق ولكني الآن أشعر بمودة شديدة لك، فأنت مختلف جدا عن ظاهرك. ضحكت وقلت له ألسنا نشبه بعضنا بعضا في هذه الصفة. قال أجل.
أكثر ما أفرحني مع صدور العدد الثاني من مجلة «الحياة المسرحية» الصورة التي وضعت فوق أسمائنا والمرسومة بريشة الفنان فائق دحدوح فوجود صورتي إلى جانب صورة سعد الله كانت شرفا كبيرا لي اعتز به حتى الآن.
«النزاهة عطره، الحقيقة مبتغاه!»
■ الأديب الصحفي حسن م يوسف:
«سنعلمهم أن الرجال لا توطأ كرامتهم إلا بالموت»
■ مقتطف من بورتريه بعنوان: «سعد الله ونوس»
عندما صافحته للمرة الأولى، في مسرح الحمراء بدمشق، عقب العرض- الصدمة؛ «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» بدت لي السنوات السبع التي تفصل بيننا، أطول من سبعة قرون! فقد أحسست في ذلك اللقاء أن سعد الله ونوس شديد البعد بالغ الغموض، لدرجة أنه لم يخطر ببالي أننا سنتمكن يوماً من اجتياز تلك المسافة، وتبديد ذلك الغموض، لنتلاقى في منتصف الطريق أصدقاء! لكن الأيام علمتني أن شخصية سعد الله ونوس أشبه بالقلعة العصية المكتفية بمواردها الذاتية! يستحيل أخذها قهراً من الخارج، لكن المرء ما أن يجتاز امتحان القبول عند بوابتها حتى، تتساقط أقفالها أمامه، ويغدو قادراً على التجوال فيها، واكتشاف أسرارها بكل حرية!
من أبرز الأشياء القليلة التي أغبط نفسي عليها في الحياة، أن سعد الله ونوس قد أدخلني قلعته وأطلقني فيها أذهب أنَّى أشاء! صحيح أن الوقت لم يسعفني كي أفتح الكثير من الأبواب، وأستجلي الأسرار الكامنة خلفها! لكن تأشيرة الدخول إلى قلعة سعد الله ونوس، ما تزال حتى اللحظة موسومة على قلبي!
كان وقع هزيمة حزيران على الغالبية العظمى من أبناء جيلنا أشبه باكتشاف سرطان في العائلة! لا أحد يجرؤ على النطق باسم السرطان! الكل يتجاهلونه ما أمكنهم ذلك، وعندما يضطرون للحديث عنه يسمونه (المكروه)!
«كانت الصدمة حادة وعنيفة، إذ أحس الجميع أنهم مطعونون بكبريائهم، إنهم مهانون حتى العظم… عندما تأكدت لنا الهزيمة بإعلان استقالة عبد الناصر، أحسست أنني سأموت تلك اللحظة! أحسست أنني أختنق ! بكيت وبكيت وكان لدي شعور بأن تلك هي النهاية! نهاية ماذا؟ لا أدري! ولكني أحسست أن عمراً قد انتهى، أن تاريخاً قد توقف، أن كل مشاغلي وما يربطني بالحياة وما يمثل وجودي قد انطوى في غيابة ماضٍ ينبغي أن أكفنه وأدفنه، كي أستطيع الاستمرار إلى الغد. ولكن ماذا يحمل لي الغد لا أدري!» (1)
لكن صدمة «الـزلزال الكبير» لم ترهب سعد الله ونوس، بل أيقظت فيه طاقة التحدي فأشعل قلبه المحب المقهور، وأطلق سراح الأسئلة! وبالأسئلة الصحيحة، اخترق سعد الله ونوس صمت الخوف الرهيب، وبنى نصه على أساس مكين من العقل والعاطفة، ليضعنا وجهاً لوجه، أمام الأسباب الحقيقية لعضال الهزيمة، جامعاً جرأة الفكرة وحرارة النبرة! لهذا جاءت «حفلة سمر من أجل 5حزيران» بمثابة اختراق مركب؛ على صعيد القول وعلى صعيد الشكل الفني أيضاً!
قبل سعد الله ونوس كان المسرح العربي حبيس علبة الطاعة الإيطالية، ينوس بين نقيضين؛ حشمة مصطنعة مضجرة، و بذاءة ضحلة منفرة! ومن قلب زلزال الهزيمة الكبير أطل سعد الله ونوس! مدَّ لسانه للهزيمة! و جعل منصة المسرح تمد لسانها هي الأخرى لها، عبر الصالة، وصولاً إلى الشارع حيث يتسيد صمت الخوف! اخترق الجدار الرابع الذي طالما وقف حائلاً بين خشبة المسرح العربي والحياة، أدخل شخصياته إلى الصالة من حيث دخلنا، لكي يشرح لنا لماذا انهزمنا، ولماذا صرنا إلى حيث صرنا!
«كانت الضرورة تقضي أن يوجد أحد، مثل ذلك الطفل الذي أشار إلى الملك وقال إنه عار ، ليقول شيئا مماثلاً ، وكان سعد الله ونوس ذلك الطفل الذي قال!» (2)
كانت «حفلة سمر من أجل 5حزيران» بمثابة بيان مسرحي تطبيقي حي، يعلن رفض الهزيمة والموت، وينحاز للحياة والكتابة! ولهذا أحدثت المسرحية ضجة هائلة، عند عرضها في عدد من العواصم العربية، قبل دمشق، ولهذا لم يكن النجاح الجماهيري المدوي الذي حققه نص سعد الله ونوس وإخراج علاء الدين كوكش مفاجئاً. ففي كل عرض كان مسرح الحمراء بدمشق يحتشد بالرواد، وفي كل عرض كان النجاح يتجدد ويتأكد!
كانت فرحة المخرج الموهوب علاء الدين كوكش بهذا النجاح كبيرة، لدرجة أنه أسمى الابنة التي ولدت له في تلك الأيام «سمر»!
من يقرأ كتابات سعد الله ونوس بعمق يستطيع أن يدرك إلى أي حد كان وطنياً وعربياً حتى الصميم! لكنه كان يتحرج من إعلان ذلك بالطريقة الترويجية السائدة، لأنه كان يكره الإفراط في العاطفة على حساب العقل من جهة، ولأنه لا يريد أن يختلط صوته بأصوات المتاجرين بالوطنية والعروبة من جهة أخرى.
إنه يرى ما يجري. يستشرف المستقبل. يحاول أن ينبه للخطر الداهم القادم! لكنه يتمزق ألماً إذ يرى صوته يتبدد أدراج الرياح!
أعتقد أن معركة سعد الله مع السرطان تصلح مادة لكتاب عن قوة الروح البشرية المفتوحة على المطلق! غير أني سأحاول هنا تلمس أبرز معالم تلك المعركة تاركاً الكثير من التفاصيل لمناسبة أخرى .
في «حفلة سمر» يدعو عبد الله للمقاومة مهما تضاءلت فرصتها! قائلاً: «من يريد أن يبقى فليأت نحوي! سنعلمهم أن الرجال لا توطأ كرامتهم إلا بالموت !» (3)
لقد كانت نفقات العلاج كبيرة، لكن إحساس سعد الله بها كان أكبر منها! وقد كان لذلك الإحساس بالغ الأثر في دفع سعد الله لاستنفاد كل لحظة من وقته، وكل نبضة من قلبه في الكتابة، بحيث أنتج أثناء صراعه مع السرطان ثمانية أعمال مسرحية تأتي في صدارة أهم الأعمال في تاريخ المسرح العربي. وقد سألت سعد الله مرة عما إذا كان لشعوره بالامتنان لكل من وقفوا معه، أثراً في تحفيز كل هذه البسالة المدهشة في المقاومة والكتابة، فابتسم لي وقال: «يوجد شيء من هذا» والآن يبدو لي أكيدا أنه «يوجد الشيء الكثير من هذا» فسر سعد الله ونوس الشهم الأبي، يكمن في مقدرته على تحويل الحب إلى قوة للحياة، كما يكمن في مقدرته على تكريس كل قوة الحياة من أجل الكتابة، للرد على الجميل بالجمال!
1ـ فيلم «مازال هناك ما يمكن أن يقال» إعداد وإخراج عمر أميرلاي، إنتاج فرنسي مشترك، محطة (آرتي) أفلام (غران دو سابل) والمركز الوطني للسينما، فرنسا.
2 ـ عبد الرحمن منيف، مقدمة أعمال سعد الله ونوس الكاملة ج 1 دار الأهالي دمشق
3 ـ حفلة سمر من أجل 5 حزيران.