من التراث عمر بن عبد العزيز
دعا الخليفة سليمان بن عبد الملك الأمراء الأمويين وأشراف الناس وأخذ بيعتهم على ما في الكتاب مختوماً (كتاب فيه اسم ولي عهده بعد أن أصابه المرض وفيه تسمية عمر بن عبد العزيز لولاية العهد دون علمه).
وجاء عمر بن عبد العزيز إلى رجاء بن حيوه (المستشار الخاص لسليمان) وقال: يا رجاء إني خشيت أن يكون قد عهد إلي وأنا والله لا أطيقها، فخبرني الآن وهو حي، لأصرفها عني، قال رجاء: لا والله لا أخبرك بشيء فانصرف مغضباً.
وجاءه هشام بن عبد الملك فقال: يا رجاء، أخشى أن يكون قد عهد إلى غيري، وأنا أشكر لك وأثيبك، فخبرني الآن وهو حيّ، حتى أحولها إلي، فقال رجاء: لا والله لا أخبرك بشيء فانصرف مغضباً.
مات سلميان سنة 97 هـ وجمع رجاء الناس وفتح الكتاب فإذا هو عمر بن عبد العزيز فضج أبناء عبد الملك بن مروان، فلما سمي يزيد بن عبد الملك بعده سكتوا (علموا أنها ستعود إليهم)، لكن عمر صعق وقال: والله ما سألتها الله في سر ولا علن. فأخذوا بكتفيه حتى أقاموه إلى المنبر وسكت الناس، فقال: «يا أيها الناس، إن ما استؤمرت فيها ولا خُيّرت، وما لي بها من حاجة، وقد خلعت بيعتي من أعناقكم، فبايعوا من شئتم» فضجوا وصاحوا: لا نريد غيرك.
فقال: «أما بعد، فإنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد القرآن كتاب، ألا ما أحل الله فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم الله فهو حرام إلى يوم القيامة. ألا إنه ليس لأحد أن يُطاع في معصية الله، ألا وإني لستم بخيركم ولكني رجل منكم، غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً». جهزت له المراكب الرسمية العظيمة والأثاثات المكية فقال: ما لي ولهذه المراكب؟؟ نحوّها وقربوا إلي بغلتي، فركبها وسار وأمر بإبطال المركب الرسمي، وبيع الأثاث الملكي وإدخاله في بيت المال.
وكان حرس الخليفة مؤلفاً من ستمائة رجل، فقال: «حسبك بالأجل حارساً). وأمر بحلّ الحرس وتسريحه وأعطاهم رواتب دائمة.. ونهض لرد المظالم.. كانت المظالم تلك الأموال الهائلة والثروات العظيمة التي تملكها أسرته فعزم على ردها إلى أصحابها إن عرفوا أو إلى الخزانة العامة، ونفذّ قانون (من أين لك هذا) وبدأ بنفسه فكان له عقارات أعطوه إياها الخلفاء أبناء عمه فأعادها إلى أملاك الدولة وجمع أمراء بني أمية ووعظهم وبين لهم أن حقوقهم في أموال الدولة مثل حقوق أعرابي في الصحراء أو فلاح في مزرعته وأن ما بأيديهم من أموال فهي حرام وأمرهم بردّها فأبوا، ثم دعاهم إلى طعام وتركهم حتى يجوعوا وأحضر لهم عدساً وتمراً وبصلاً، فأكلوا وشبعوا ثم أحضر لهم طعاماً طيباً ومكلفاً فلم يستطيعوا أكله. فقال: أرأيتم؟؟ فلم التقحم في النار من أجل أكلةٍ وشربة؟؟!!
فلم يستجيبوا وعندما لم تنفع معهم أساليب الحوار واللين عمد إلى الشدة. ووسطوا له عمة له كان يوقرها بنو أمية لسنها فكلمته، فقال لها: «يا عمة قُبض رسول الله ( فترك الناس على نهرٍ جارٍ، فولي بعد برجل (أبو بكر) فلم ينتقص منه شيئاً.. ثم ولي بعد رجل (عمر) فل ينتقص منه شيئاً... ثم ولي رجل (عثمان) فشقّ منه ساقية صغيرة، ثم لم يزل الناس يشقون السواقي حتى لم يبق منه شيء، وأيم الله لأسدَّن السواقي حتى أعيده كما كان».
فخرجت فقالت: هذا ذنبكم، لماذا زوجتم أباه بنت عمر بن الخطاب؟ اصبروا فإنه لا يحيد.
خضعوا جميعاً وردوا الأموال إلى الخزينة، واكتفوا بمرتباتهم الكبيرة منها، لكن عمر لم يكتف وأمر بقطع هذه الرواتب وإعطائهم عطاء أمثالهم وأمرهم بالعمل كما يعمل الناس.
حينها عمّ الأمن وخمدت الثورات ضد بني أمية واختفت مظاهر البذخ ومعها مظاهر الفقر.