محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

السلطة في أدب الأطفال

يصدم المهتم بميدان أدب الأطفال المحلي بذلك الكم الهائل من الرداءة والإسفاف الذي تحويه تلك المطبوعات الفاخرة الموجهة للأطفال على المستوى العربي، إلى درجة دعت بعض المنظمات الدولية إلى إقامة عدة مشاريع للنهوض بالكتابة العربية للأطفال، دون جدوى فعلية ترجى من تلك المشاريع.

في الواقع لا يمكننا أن نرجع ذلك التردي الكبير في هذا إلى الميدان إلى انقراض المواهب لدى كتابنا، فالمسألة مرتبطة بتآكل الخطاب الثقافي السائد بشكل عام، ولذلك يمكننا أن نرى خلف أزمة أدب الأطفال أزمة مجتمع ومؤسسات... وسلطة.  

«كبار»... «صغار»

قد يكون من الغريب أن ننظر إلى أدب الأطفال من زاوية علاقته بالسلطة، فتلك الحكايات والأشعار اللطيفة الحافلة بالخيال والدهشة تبدو أكثر براءةً من أن نقرنها بأية ممارسة سلطوية، ولكن هذا الانطباع سيزول سريعاً إذا تذكرنا أن أدب الأطفال قائم على فكرة أساسية هي أن  «الكبار» يجب أن يكتبوا لـ«الصغار»، وبين هذين الحدين (كبار، صغار) يمكننا أن نتلمس الخطوط الأساسية لفعالية السلطة، فلكلمة «كبار» في هذا السياق أكثر من دلالة، حيث اختلف مدلولها القديم بعد أن انتزعت مهمة سرد القصص الخرافية من الجدات العجائز اللواتي كن ينقلن إلى صغارهن من خلال تلك القصص منظومة متكاملة من القيم الاجتماعية العفوية، ضمن سياق جمالي يتضمن كل عناصر الحس والمخيال الشعبي المتحرر إلى حد كبير من المتطلبات المباشرة للسلطة.

عندما نشأ أدب الأطفال بشكل جدي في أوروبا القرن الثامن عشر أصبح «الكبار» مجموعة من الكتاب المحترفين، تتبدى في أعمالهم متطلبات إعداد جديد للفرد، يتناسب مع أولويات سلطة تسعى جاهدة لتهيئة المجتمع وفقاً لحاجاتها. هكذا أصبح «الصغار» مادة خاماً يجب على «الكبار-السلطة» صياغتها بالشكل المناسب، وبذلت في سبيل ذلك الكثير من الجهود المنظمة والمخطط لها بشكل متقن، فغدا النص الموجه للأطفال ميداناً لتقاطع العديد من الخطابات السلطوية. 

النشيد والعصا

يختلف السياق التاريخي لتطور أدب الأطفال في العالم العربي عن سياقه في الغرب، فالسلطة (بالمعنى الضيق للمفهوم) لدينا لم تُعن كثيراً بتحصين نفسها بسلسلة من البنى الفوقية المتينة والقادرة على تثبيت هيمنتها الفكرية والأيديولوجية على المجتمع، ولذلك كان خطابها أحادياً فجاً وغير قادر على الصمود وحده دون عنف سلطوي مساند له.   

وينطبق هذا على مجال أدب الأطفال، فعلى الرغم من انتباه السلطة المبكر نسبياً إلى ضرورة تأسيس أدب أطفال محلي يساهم في بناء إنسانها «النموذجي»، إلا أنها لم تستطع الخروج من  إطار خطابها السائد لدى تعاملها مع عوالم الطفولة، ولعل تقنية «النشيد» التي تم التركيز عليها وتعميمها في المناهج الدراسية هي خير مثال على عمل السلطة في هذا الميدان...

النشيد عبارة عن نص شعري سلس اللغة ومباشر المضمون كتب لكي ينشده الأطفال بشكل جماعي شبه طقوسي تحت إشراف عصا المعلم، وذلك التلازم بين النشيد والعصا تلازم عضوي، فتلك الأشعار التي لا تعني مضامينها الأطفال كثيراً ألفت لكي تحفظ وتؤدى تحت تهديد العصا، ولولا العصا لما اهتم الأطفال أصلاً بنصوص تسعى إلى إيصال أيديولوجيا السلطة بكل تلك الفجاجة.

وإذا كان أدب الأطفال قد نشأ في الغرب ليحل النص تدريجياً محل العصا في الإعداد السلطوي للطفل، فإن أدبنا المحلي تهالك تدريجياً لتصبح العصا هي السائدة تماماً في تلك المعادلة السلطوية.

وعلى الرغم من كل هذا فإن النص المكتوب للأطفال فيما مضى كان نصاً ممتازاً إذا قارناه بالنصوص التي تكتب وتنشر حالياً، على الأقل من ناحية الصياغة اللغوية وتقنيات الكتابة. 

أزمة السلطة... بؤس النص

الحالة التي وصل إليها أدب الأطفال المحلي اليوم يمكن ردها إلى أزمة الخطاب السلطوي الأحادي، وفشل كل محاولاته لتغير قوله التقليدي. وبما أن الساحة قد أُفرغت تقريباً من أية قوى قادرة على النهوض بخطاب بديل، فمن الطبيعي أن نصل إلى هذا الحال المتردي.

لدينا الآن مجموعة من الكتاب المكرسين رسمياً ككتاب للأطفال، يحاولون تقليد الجيل الأول من كتاب السلطة، ولكن دون جدوى، حيث أن ذلك الجيل قد استنزف حقاً كل الإمكانيات الضيقة والخيارات المحدودة  التي يتيحها خطاب سلطوي يتصف بتلك الدرجة من الأحادية. ومن جهة أخرى هنالك العشرات من المطبوعات التجارية البائسة التي تقوم جهات لا تمتلك أي مشروع ثقافي بإصدارها وتوزيعها بشكل واسع دون أن يقرأها أي طفل.

هل يمكننا الحديث إذاً عن نهاية أدب الأطفال المحلي؟

يمكننا الحديث عن ذلك بالتأكيد، كما يمكننا أن نكسب حديثنا مضموناً إيجابياً إلى حد ما، إذا قلنا إنه في شرطنا التاريخي والاجتماعي الراهن، وفي ظل غياب مشاريع ثقافية-سياسية بديلة تنتج آدابها التي «تتسلط» على المتلقي لدفعه نحو فعل اجتماعي جديد، يمكننا أن نعوَّل على نمط جديد من الكتابة للطفل عرفه الغرب منذ فترة طويلة، وبدأت بوادره بالظهور لدينا حديثاً، وهو نمط يعشش في عوالم الطفولة ويكتب بلغتها ومنظورها.

 

 ذلك النمط من الكتابة لن يكون «أدب أطفال» بالمعنى الذي اكتسبه هذا المصطلح تاريخياً، بل سيكون ملامسة أدبية لفضاءات الطفولة التي تصلح أن تكون واحدة من أهم منابع إلهام الأدب الحقيقي... أي الأدب غير الموجه لـ«الصغار».