بابلو نيرودا ... شاعر الثورة والإنسانية

اقترنت حياته ونتاجاته الفكرية والأدبية بالثورة على الديكتاتورية كما بحب الطبيعة وحب الحياة، والتزم -  في حربه ضد الطغيان والظلم -  جانب الفقراء والمهمشين في بلاده والثوار والمثقفين في أمريكا الجنوبية والعالم. وبعد موت صديقه رئيس جمهورية تشيلي المنتخب ديموقراطياً (سلفادور الليندي) إثر انقلاب دبرته الولايات المتحدة وقام به الجنرال بينوشيه يوم 11 أيلول عام 1973 وقبل أيام من وفاته، جاء حرس الليل والشرطة السرية للبحث عنه فواجههم بعبارته الشهيرة: لا شيء هنا سوى الشعر أو الكلمات. 

إنه: ريكاردو الييسير نيفتالي الذي أبصرت عيناه النور في 12 تموز  1904، وغير اسمه في عمر السادسة عشرة إلى الاسم الذي سيصبح الأرق والأعذب والأشهر: بابلو نيرودا..

في العشرين من عمره  نشر أولى قصائده الشعرية «عشرون قصيدة حب وقصيدة يأس» فحققت له شهرة واسعة.

وعندما عين قنصلاً فخرياً في "رانغون" وجد نفسه غريباً ووحيداً. هنا كانت نقطة التحول الأولى في شاعريته إلى الشعور الداخلي، فقد نشر عام 1933  مجموعة "العيش على هذا الكوكب" حيث نجد في هذه القصائد الاغتراب والبعد والتشاؤم والموت، وقد اتخذت  طابع الحوار الداخلي مع النفس مع بعض الفوضوية والعبثية. وهنا أصبح الجنس عنده (تافهاً)، والطبيعة كتلة من الدمار، وغايات البشر تصيبه بالقرف :

«أبدو متعبا لكوني من بني البشر

عندما أدخل محلات الخياطة ودور السينما

أكون مشلولاً.. متحجرا

مثل إوزة تشق طريقها مبحرة في مياه الينابيع والرماد.

رائحة محلات الحلاقة تجعلني أنتحب.

أريد أن أؤجل نظري إلى الحجارة والقطن،

أريد أن أشيح نظري وألا أرى أبدا الحدائق والمؤسسات..

البضائع.. النظارات.. المصاعد.

إنني متعب: من قدمي وأظافري وشعري وظلي.

تصادف اليوم أن أكون متعبا لأنني أنتمي لبني البشر.»

 انتقل ليعيش في إسبانيا، وهناك خرج من عزلته وبدأ حكاية أخرى في حياته، فقد شهد بداية الحرب على يد الجنرال فرانكو وفقد صديقه الشاعر فيدريكو غارسيا لوركا الذي كان يرى في نيرودا:

«شاعر أقرب إلى الموت منه إلى الفلسفة، وإلى الألم منه إلى الذكاء، وإلى الدم منه إلى الحبر. إنه شاعر مليء بالأصوات الساحرة التي لا يستطيع هو نفسه ـ لحسن الحظ ـ أن يفسرها، وهو رجل حق، يعرف أن طائر السنونو أكثر بقاءً من التمثال الصلب. إن شعر نيرودا يرتفع بنغم لا مثيل له في أمريكا، شعر مليء بالحب، فنيرودا لا يعرف الحقد أو السخرية وحين يريد أن يعاقب ويرفع السيف يجد نفسه أمام حمامة جريحة بين أصابعه».

●●●

 وفي مدريد 1936 خرج شعره من الهم الشخصي إلى عالم السياسية، فقد كُتب عليه أن يغير نمط شعره ويبدأ الكتابة إلى الجماهير، لتكون قصائده واضحة ومباشرة :

مدريد وحيدة وجليلة

 شهر تموز أدهشك وفاجأ متعتك بقرص العسل

شوارعك ساطعة

وحلمك ساطع،

تقيؤ مظلم للجنرالات

 موجة من رجال الكهنوت انصبت بين ركبتيك

إنها مياه مستنقعاتهم.. إنها أنهار من البصاق.

●●●

وفي هذه الفترة بدأ يكتب مرثيته العظيمة لضحايا الحرب الإسبانية، «إسبانيا في قلبي»

وفي هذه المرثية قدم الشاعر ملامح من الالتزام الاجتماعي والدفاع عن قضايا العدل والحرية.

●●●

وفي عام 1937 عاد إلى تشيلي، حيث كان هناك قلق كبير لأوضاع آلاف اللاجئين الإسبان الذين فروا أمام تقدم قوات فرانكو، ولهذا قام بالسفر إلى فرنسا لكي يقوم بتنسيق جهود نقل ألفين منهم على متن قارب استأجره لتشيلي، وفي قصيدته التي كتبها بهذه المناسبة أعلن نيرودا عن تخليه عن العاطفية والشعرية الرومانسية لكي يكرس نفسه لقول الحقيقة وللكشف عن المظالم التي تواجه الإنسانية:

ستسأل .. أين إذا الليلك

 والوجود البعيد متوج بالخشخاش

والمطر يرش كلماته.... يملؤها بالثقوب والطيور

 قد تسأل.. لماذا لا يتحدث الشعر عن الأحلام وأوراق الشجر

عن البراكين العظيمة في موطنه

 تعال وعاين الدماء في الشوارع

 تعال وعاين الدم في الشوارع

 تعال وعاين الدم في الشوارع.

●●●

 وفي عام 1948 أمر الرئيس التشيلي فيديلا بحظر الحزب الشيوعي واعتقال بابلو نيرودا، فراح ينتقل من بيت إلى بيت. وفي النهاية غادر تشيلي إلى المنفى حتى وصل إلى الأرجنتين.

وفي المنفى  كتب بابلو نيرودا قصائد "نشيد الجنرال" عام 1950. وكانت بالفعل بداية شعرية مختلفة. إنها قصائد ملحمية يخلط فيها التاريخ مع أفكار إيديولوجية بعيدا عن الرمزية الشعرية، وتحمل هذه القصائد أجمل الأفكار وأقواها مما جعلها من أفضل ما كتبه:

نحن فضة الأرض النقية

معدن الإنسان الحق

نجسد حراك البحر الدائب

دعم كل الآمال

ولحظة في الظلام لا تسلبنا النظر

 ودونما عذاب سنلقى حتفنا

●●●

 حين أصدرت تشيلي عفوا عن نيرودا، ومع عودته إلى بلاده، تغير شعره من جديد، وتحولت الكلمات القوية التي تصور المنفى إلى كلمات تعبر عن الحياة اليومية من غرفة النوم حتى حانوت بائع التفاح.

في آخر عشرين سنة من حياته ركز نيرودا على قصائد وجدانية عاطفية

كان الجديد فيها أنه طور التعبير الرومانسي الذي كتبه في بداياته الشعرية. بينما وُصف في البداية بالشاعر المراهق.

مع كبر سنه راح يكتب قصائد حب ناضجة احتفل فيها بحبه للأرض:

اليوم رفعَنا البحر الهائج بقبلة

إلى الأعلى حتى ارتجفنا

في ومض البرق، والتصقنا ببعضنا،

وانحدرنا لنغطس معا دون أن نبتعد عن بعضنا.

اليوم أصبحت أجسادنا ضخمة،

لقد نمَت حتى أطراف العالم

وتدحرجت تذوب ببعضها

إلى قطرة واحدة من شمعة أو نيزك.

وفُتح باب جديد بينك وبيني

وشخص ما، بلا وجه، كان ينتظرنا هناك.

رحلت فكرة الأسى والعزلة من حياة نيرودا تماماً، ولم يعد يكتب عن ابتعاده عن الناس عندما كان يقول: " أشعر أنني لا أنتمي إلى هذا العالم، كما لو كنت طفل القمر.

●●●

وعبرت مجموعته «مئة سونيتة حبّ» عن هذا التوجه :

لا احبكِ كما لو انكِ وردة من ملح.

أو حجر ياقوت، أو سهم من قرنفلات تشيع النار:

أحبكِ مثلما تحَبّ بعض الأمور الغامضة،

سرا، بين الظل والروح.

 أحبكِ مثل النبتة التي لا تزهر

وتخبئ في داخلها ضوء تلك الزهور

وبفضل حبكِ يعيش معتماً في جسدي

العطر المكثّف الطالع من الأرض . 

●●●

وفي الخمسينات عين سفيراً لبلاده في المكسيك و كانت السلطات المكسيكية قد أعلنت حالة الطوارئ وراحت تلاحق الروائي الكولومبي غابريل ماركيز بناء على طلب سلطات بلده ( كولومبيا ) كجزء من حملة إرهاب ضد كتاب اليسار في القارة الأمريكية الجنوبية وحين ضاقت بغابريل الأرض  لجأ إلى السفارة التشيلية وكان اقتراح نيرودا  أن يسافر غابريل ماركيز بجواز سفر السفير إلى باريس !

وبالفعل تمت فصول هذه القصة بسهولة بالغة وكان ماركيز في المطار يعامل من قبل السلطات ويحتفى به حسب التقاليد الدبلوماسية وما من أحد يشك أن هذا السفير هو ذلك الروائي الهارب الذي تبحث عنه الشرطة المكسيكية في كل مكان.

●●●

وقد شكلت حياة نيرودا وأشعاره دروساً في الحب والثورة لأدباء وشعراء على امتداد العالم بأسره، يقول الشاعر أحمد فؤاد نجم:

بعد عشرات السنين، الناس نسيت القتلة، لكن القتيل حي في ذاكرة الإنسانية للأبد لأنه انتظم فعلا في العقد الغالي .. عقد الشهداء الأبرار..

 

 ■ الحسين النعناع