مسألة التراث.. وإشكالية اختزاله في الإسلام
يعتبر الخلاف حول منهج البحث فيما يخص موضوعة التراث في بلادنا، أو ما صار يعرف بمسألة التراث، من أكثر المواضيع التي أثارت نقاشاً واسعاً بين العديد من المفكرين والمثقفين العرب. والغالب أن ميدان البحث في هذه الإشكالية، كان النصوص الدينية، وما يرتبط بها ويتفرع عنها، حتى قيل إن أغلب الباحثين العرب بمن فيهم أكثرهم علمية، يختزلون تراث العرب كله في الدين الإسلامي، ويتجاهلون ما تبقى من تراث غير إسلامي.
ويحمل هذا القول اتهاماً للمفكرين العرب، الذين خاضوا في مسألة التراث، ودفع بعضهم حياته ثمناً لذلك، بأنهم ساهموا في تعميق المشكلة وتعقيدها، وساهموا في اختزال التراث كله في الدين الإسلامي. والحقيقة أن هذا الاتهام ليس في محله مطلقاً، لأن الصحيح أن اختزال التراث في الإسلام كان سبباً في اتجاه هؤلاء المفكرين إلى دراسة التراث الإسلامي، وليس العكس.
فيمكن القول إن خصوصية مسألة التراث عندنا، تنبع من عاملين أساسيين. الأول يتمثل في حقيقة أن الإسلام تمكن بعد انطلاقه من جزيرة العرب، وبسبب شمول نصوصه لأحكام ومبادئ تنظم أغلب مناحي الحياة، من استيعاب معظم التراث الإنساني السابق عليه، وإعادة إنتاجه بصيغة إسلامية فريدة، بعد إخضاعه للتحليل والتأويل. ونتج عن تلاقح مبادئ الدين الإسلامي، مع تراث المجتمعات التي دخلها الإسلام، عشرات البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وعشرات الأنساق الفكرية، التي كانت مرتبطة بالإسلام ارتباطاً عضوياً، والتي شكلت بمجموعها أغلب التراث العربي، وأغلب بناه الموروثة التي لا يزال قسم منها حياً، ومؤثراً في أنماط التفكير العربية المعاصرة. وأما العامل الثاني فيتمثل في هالة القداسة المفروضة على كل ما يرتبط بالإسلام من بنى اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، بحيث أصبح من الصعوبة بمكان، رسم الحدود الفاصلة بين ما يجب التعامل معه بوصفه إنجازاً إنسانياً خاضعاً للنقد والتحليل، وبين النصوص الدينية المقدسة.
ومع بداية ما سمي بعصر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وبنتيجة التغيرات الكبرى التي طالت المجتمع العربي مع انهيار الخلافة العثمانية، واحتكاك المثقفين العرب مع الغرب؛ وجد «مفكرو النهضة» أنفسهم في مواجهة مفاهيم العلمنة والدولة والقوانين المدنية والدستورية، التي كان العرب بعيدين عنها بفعل هيمنة الإقطاعية العسكرية الحاكمة في الدولة العثمانية، كما وجدوا أنفسهم في مواجهة ضرورة حسم الموقف من الماضي كشرط لبناء الحاضر والانطلاق نحو المستقبل، وهو ما طرح تارة تحت عنوان إعادة النظر في التراث، وتارة تحت عنوان إحياء التراث، وغيرها من العناوين. وبدأت قضية حسم الموقف من الماضي تصبح أكثر تعقيداً، عندما تأرجحت بين الرافضين لكل التراث الإسلامي، تحت شعارات العلمنة وفصل الدين عن السياسة، وبين المتقوقعين الذين تحصنوا خلف قداسة النصوص الدينية، وعادوا إلى كتب التاريخ والفقه الإسلامي للبحث عن حلول جاهزة، لإشكاليات وتحديات راهنة لم يكن لها وجود يوم أنتج أسلافنا ذلك التراث الإنساني العظيم.
وبتأثير من العاملين السابق ذكرهما، وأعني هيمنة الإسلام على أغلب مناحي الحياة العربية لما يزيد عن ألف عام، وتقديس كل ما يتصل بالإسلام، حتى ضاعت الحدود بين التراث الإنساني، والنصوص المقدسة، أصبح مطلب تجاوز الإسلام للوصول إلى العلمنة، يعني تجاوز التراث وإقصاءه، وأصبح مطلب التمسك بالإسلام كحل للأزمات المعاصرة يعني العودة إلى التراث، والتمسك به بوصفه هوية، وطريق خلاص. وهكذا استقر في وعي الكثيرين، اختزال التراث في الإسلام، وصار مصطلح العودة إلى التراث في حد ذاته يعني في الوعي العربي، العودة إلى الدين الإسلامي.
وبالنتيجة، فإن جوهر المشكلة يكمن في التعامل مع ذلك الجزء من التراث، الذي يرتبط بالدين الإسلامي، وهذا ما دفع العديد من المفكرين إلى التصدي لهذه الإشكالية، مركزين بحثهم على التاريخ الإسلامي، والنصوص الدينية، والنصوص التي أنتجت لاحقاً بناء على النصوص الدينية، في محاولة لإضفاء العقلانية على البحث الفكري في التراث الإسلامي، وإعادة وضعه في سياقه التاريخي الصحيح، بهدف الوصول إلى «استيعاب التراث بشكل جديد» على حد تعبير الشهيد حسين مروة، في مقدمة كتابه النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية.
إن القول بأن هؤلاء الباحثين يختزلون التراث في الإسلام، قول غير صحيح، لأن الحقيقة، أن مشكلة التراث لدينا تتركز في فهم التراث الإسلامي دون سواه، ولذلك كان طبيعياً أن يتركز البحث على التراث الإسلامي عند محاولة التصدي لهذه المسألة. وإذا كان النقاش الفكري المعمد بالدم، حول الموقف من التراث، قد ساهم في تكريس اختزال التراث في الإسلام عند البعض، فإن هذا ناتج عن الخطأ المنهجي في التعامل مع مسألة التراث، تلك المسألة الملحة، التي لا تلوح بوادر حلول فكرية لها في المدى المنظور.