بين قوسين: ولكن هل يعرف السوري بلاده؟
صديقي الذي تجاوز الستين من عمره، زار منطقة الجزيرة السورية أخيراً، وعاد مدهوشاً بمشاهدات لم يتوقعها عن خريطة مجهولة ومهملة. هكذا تشجّع وقطع نحو ألف كيلو متر كي يتعرّف على هذه الأرض التي تُنتج القمح والقطن والبترول، و...الكباب طبعاً. زار صديقي خلال جولته قرى ومناطق ومدناً، والتقى شعراء يكتبون بحماسة آلامهم وحيواتهم المضطربة. لن أسترسل في وصف وقائع الرحلة كما رواها لي، لكنني بصراحة أحس بالأسى، لواقع يتكرر على الدوام: السوري لا يعرف خريطة بلاده كاملةً. شباب جامعيون لا يعرفون أبعد من مدينة تدمر، فهم زاروها في رحلة لا تتجاوز ساعات محدودة، والتقطوا صوراً تذكارية بين أقواسها القديمة، ثم عادوا قبل الغروب. لا أحد يفكر بزيارة مدينة «ماري» على كتف الفرات، أو «إيبلا» التي يأتيها السواح من جغرافيات أوربية بعيدة، ثم من يعرف حضارة «تل حلف» في أقصى الشمال السوري. حسناً، هذه أماكن بعيدة، ولكن ماذا بخصوص «أوغاريت» من يزورها كي يتعرف عن كثب على أرض أول أبجدية في العالم؟ نذهب إلى اللاذقية كي نتمتع بمنظر البحر، لكننا لن نغامر بسهولة في قطع مسافة عدة كيلومترات للذهاب إلى أوغاريت. بالطبع فإن الشعب السوري لم يتدرب على ما يسمى «السياحة الثقافية»، لغياب هذه العبارة عن المناهج الدراسية، وعن اهتمامات وزارة السياحة. أبناء الجنوب السوري لا يعرفون معالم وقيم وتقاليد الشمال، والعكس صحيح.
الجزيرة السورية ليست فقط عاصفة من العجاج المتواصل، وليست مكاناً للجفاف الحكومي والرباني، وليست صحراء قاحلة، إنها جغرافية مهملة تحتاج إلى من يعتني بما تبقى من حياة في قراها الطينية، ومدنها المتناثرة، و«خابورها» الذي صار مجرد ذكرى. تعالوا نتعرف على سورية بحواسنا الخمس، وليس عن طريق مواضيع الإنشاء البليدة. التلفزيون نفسه اكتفى ببرامج فولكلورية في رسم ملامح البلاد، وكأن المسألة تتعلق بحجارة صنعها الأجداد على شكل قلاع وحصون ومعالم أثرية. لنتعرف على سورية اليوم من أقصى قرية في الجزيرة السورية إلى أبعد قرية في الساحل السوري، ولنكفّ عن الدهشة، ونحن نتلمس متأخرين بيئات متجاورة لا نعرف جيداً جوهر عاداتها وتقاليدها. تعالوا نتفق على أن دمشق، ليست سورية كلها، وننظر بعمق إلى خريطة البلاد كلها، كما لو كانت أيقونة.