أنور أبو بندورة أنور أبو بندورة

روبنسون كروزو، نظير لاحق لقصة حي يقظان..

إن ما يميز قصة حي بن يقظان التي كتبها الأديب والطبيب والفيلسوف الأندلسي أبو بكر محمد بن طفيل، هو الفرادة في اعتماد الفكرة، الابتكار في البناء الفني، البراعة في المعالجة، والفعالية في الإيحاء. لقد عرض ابن طفيل في هذه القصة  سيرة المعرفة الإنسانية، عبر سيرة ربيب ظبية دُعِي حي بن يقظان، وكيف تمكن بفطرته الفائقة من الارتقاء بالمعرفة من الحواس والتجربة إلى المعرفة العقلية القائمة على نتائج ومعطيات ما جربه وخبره في عالم الكون والفساد حتى خلص إلى الحكمة الشرقية.

لعل غوتيه كان أول من بحث علاقة قصة حي بن يقظان بقصة روبنسون كروزو المنشورة عام 1719تحت عنوان «The life and strange surprising adventure of Robinson Crosoe of Daniel de Foe.

لدانييل دو فو، ووقف غوتيه عند حد افتراض اطلاع دو فو على قصة ابن طفيل .

فالتشابه في الأحداث مثير حيث بناء البيت، إنشاء المخزن، تدجين الحيوانات. والقصتان تسجلان تطور الإنسان والتاريخ من البدائية والحيوانية إلى الحضارة. ونتذكر هنا المراحل التي مر بها حي في صنع الملابس والسلاح للدفاع والصيد واكتشاف النار. وننوه أيضا أن روبنسون كروزو قد علم اللغة فرايدي اللغة بنفس الطريقة التي لجأ إليها إسال  في تعليم حي.

فالرأي القائل بتأثر دو فو بقصة ابن طفيل، هو رأي قوي، وهذا ما نوه عنه محمد مندور  في كتابه "نماذج بشرية"  من انفعال دو فو بحادثة  واقعية حصلت سنة 1705 وهي حادثة إلقاء الربان سترلنج للبحار سالكرك في جزيرة فرنناديز المهجورة عام 1705 حيث عاش أربع سنوات في عزلة تامة. ذلك أنه يجب أن لا ننسى أن دو فو قد كتب قصته هذه بعد إحدى عشر سنة من هذه الحادثة، وأن ترجمة قصة ابن طفيل إلى الإنكليزية قد ظهرت سنة 1708 أي بعد حادثة سالكرك بثلاث سنوات وقبل قصة دو فو بإحدى عشر سنة.

وهذا أمر يحملنا على تأكيد الاعتقاد بأن دو فو قد اطلع ولا شك على قصة ابن طفيل وتأثر بعالمها، فكان انفعاله بحادثة سالكرك ثم تأثره بعالم قصة حي بن يقظان مصدر وحيد في كتابة قصة روبنسون كروزو، ويكفي أن كروزو يلح على تذكيرنا بحي بمساعيه في تحويل العزلة إلى أنس والبطالة إلى عمل والعبث إلى جدوى.

لكننا نضيف أن كروزو يمثل نمطا للرجل العملي دنيويا، في حين يمثل حي بن يقظان نمطا مثاليا للحياة التأملية الصوفية. فالحاجة أم الاختراع.. هكذا فُسرت منجزات روبنسون كروزو.. ومن هذه الزاوية يمكن تفسير منجزات حي الحسيّة دون إغفال فطرته الفائقة.

من القصة إلى الفلسفة

إن استحضار عالم الخيال أو الرمز لعرض الأفكار الفلسفية أو للتعبير عنها في قالب فني من الأساليب التي عهدتها الفلسفة منذ نشأتها، وفي ذلك أمثلة لا تحصى فيها على سبيل الذكر استخدام أفلاطون للترهات الإغريقية وللأساطير إطارا أو على سبيل الاستشهاد في محاوراته مع طيماوس  وكريتياس  من الشعر وتشوانغ تزو من القصص قوالب لعرض الفلسفة الطاوية . وهنا لا بد من التنويه بما وصلت إليه العناية بالقالب الفني جماليا وتقنيا لدى ابن سينا في قصيدة النفس ، والمعري في رسالة الغفران، بحيث وصلت هذه الأعمال فنيا إلى المستوى الفني الراقي فلسفيا حتى كانت قصة حي ابن يقظان القمة. ولا شك أن المقومات التي نشأت وقامت عليها القصص الفلسفية الأوروبية ابتداء من القرن الثامن عشر حتى اليوم من "فولتير Voltaire" و "روسو "Rousseau و "سارتر "Sartre و "كامو Camus"وغيرهم مثلا تنتمي إلى تلك المقومات التي حُبكت عليها قصة حي بن يقظان.

والسؤال الذي يطرح نفسه بعد ما تقدم هو هل أن للعمل الفني الطاقة في التعبير عن الفكر الفلسفي لصاحبه. الجواب على هذا السؤال هو ما ردت به سيمون دو بوفوار على أولئك الذين يرفضون اعتماد العمل الفني للتعبير عن أفكارهم ومواقفهم الفلسفية فاعتبرتهم"يفضلون الماهية على الوجود، ويحتقرون المظهر بوصفه دون الحقيقة المشتركة، وأما إذا عرفنا أن المظهر نفسه حقيقة وأن الوجود إنما هو حامل الماهية، وأنه لا سبيل إلى فصل الابتسامة عن الوجه الباسم، ومعنى الحدث عن الحدث نفسه، فهنالك لا بد للرؤيا الفلسفية من أن تعبّر عن نفسها من خلال اللمع الحسية والبوارق المادية التي تنبعث من العالم الأرضي نفسه".

■ (من بحث للكاتب أنور أبو بندورة)

عن موقع قاسيون بتصرف