جدلية البصر والبصيرة في الفيلم الإيراني «شجرة الصفصاف»
مع الولادة، يبدو المصير محتوماً، فينقطع حبل سري ليتصل آخر مزوداً الإنسان بنسغ الحياة، وعندما يحاول الإنسان قطع هذا الحبل، يبدو متنكراً لقيمه العليا، وفي لحظات الضعف وفقدان الأمل، وبعد أن نخلد كل ما هو جميل، نبحث عن بقايا ذلك الحبل ونحاول تلمس طرفه الآخر.
في شجرة الصفصاف، يدعونا «مجيدي مجيدي» - المخرج وكاتب السيناريو – إلى الوقوف لحظة مع الذات والتصالح معها بلغة سينمائية إنسانية عالية المستوى، وبمفردات أجاد استخدامها، مما أهّله بجدارة لنيل الجائزة الخاصة بلجنة تحكيم مهرجان دمشق السينمائي في دورته الرابعة عشرة.
ويطرح «مجيدي» عبر فيلمه تساؤلاً مفاده: هل يكون شرط البصيرة فقدان البصر!؟
إذ يعتاد البروفيسور يوسف أستاذ الأدب الفارسي في جامعة طهران على حياته المظلمة والتي أنارها بسراج بصيرة ثاقبة مشفوعة بعلاقات متميزة ودودة ومتصالحة مع جميع من يحيط به، ويدفعه مرض خطير أصاب عينيه إلى رحلة علاج في باريس، وهناك يتماثل للشفاء ويكتشف الأطباء إمكانية زرع قرنية له وإعادة بصره الذي فقده في طفولته.
مع استعادته لبصره يبدأ البروفيسور من جديد، باكتشاف معاني مختلفة لأشياء كان قد تخيلها وبنى لها صوراً ذهنية مجردة، فينسف منظومة الصور هذه ليبدأ في نسج منظومة أخرى بموازاة تلك، في رحلة معاكسة من المجرد إلى المحسوس ويتعرف على الأشكال وأبعادها والطبيعة والألوان...
في مطار طهران ومن خلف زجاج صالة الاستقبال يحاول تلمس معالم حياة جديدة، فيقوده إحساسه الذي طالما اتكأ عليه إلى التعرف على وجوه كثيرة: أمه، زوجته، ابنته، أصدقاؤه، وفي لحظة يتعلق بصره ولفترة غير قصيرة بشابة جميلة، وهنا تبدأ الحكاية.
مع الأيام يزداد تعلقه بهذه الفتاة، وحين يتفرغ لمطالعة رسالته الجامعية يراوده شعور بالإجحاف وأنه يستحق أفضل مما عاشه بكثير، ويبدأ بالتنكر لكل ما حوله فيستبدل الآلة الكاتبة المخصصة للمكفوفين بأخرى يخصصها فقط لطباعة آرائه في تلك الرسالة الجامعية.
وبعد أن شحن شخصيته بمرحلة الانفعال العاطفي الهادىء لا يلبث أن يتحول ذلك إلى اضطراب وفقدان للتوازن مع اكتشاف زوجته تعلقه بأخرى وتصميمها على مغادرة المنزل، فيحاول أن يدمر كل شيء. يحرق كتبه ويرمي بكل شيء في فناء المنزل.
وفي لحظة أخرى تتوقف أرضه عن الدوران فقد رفض جسده تقبل الجسم الأجنبي الذي سكن عينيه، وتحل الظلمة من جديد.
لكن في هذه الفترة ينتفض غاضباً ورافضاً للعلاج، فيهيم على وجهه في الشوارع.. وبعد أن يهدأ يعاود الاتكاء على إحساسه وينقاد له وصولاً إلى منزله.
أخيراً يعود بين الحطام والرماد ليبحث عن ورقة كان قد كتبها ـ على طريقة بريل ـ ذات مساء وقبل سفره إلى باريس لتعبر عن وثيقة أمل وإيمان ومناجاة وفرصة أخرى قد أبرمت من جديد.
■ إعداد: الحسين نعناع