أوراق خريفية استفتاء عربي...

 الدبكات وحلقات الرقص الشعبي والأهازيج.. تعمّ ساحات المدينة على أنغام الأناشيد والأغاني التي تمجّد كل أنواع الطيور. فهذا اليوم مخصص للاستفتاء على قانون يمنع اغتيال العصافير الصغيرة ليلاً!

هرجٌ ومرجٌ يسودان المدخل المؤدي إلى مركز الاستفتاء. الحرارة شديدة ولا توجد أية مروحة تخفف تعرّق الأجسام البشرية المتلاصقة. الرؤوس تموج مهمهمةً.. وكل منها يسعى جاهداً للإدلاء بصوته.

بعض المشرفين على الاستفتاء، تعلو أصواتهم نصحاً وإرشاداً وتنظيماً... مطمْئنةً بأن فرصة التعبير عن المشاعر في هذا العرس الوطني البهيج، ستطال الجميع، ولكن بالدور..

اقتربْتُ متوجساً متسائلاً في سرّي: كيف سأستطيع ممارسة واجبي وسط هذا الاكتظاظ وأنا في عجلة من أمري..؟! فزوجتي مريضة أكثر منّي، والأفضل أن أكون إلى جانبها في مثل هذا الوقت.

صحيح أنني هزيل الجسم، صغير الحجم، ومن طبعي الاستجداء... ولكن رُبّ ضارة نافعة! فقد ساعدتني هذه الصفات من الوصول إلى صندوق المركز بأقلّ قدر من الخسائر..

أبرزت بطاقتي الانتخابية لرئيس المركز، فانتزعها منّي زميله بسرعة. وبآلية من يقف على خط إنتاج في معمل، أخذ البطاقة وسجّل اسمي في الجدول. وبمهارة ممرض محترف، أمسك يدي وامتشق دبوساً ووخزني به في مقدمة إبهامي‍! ندّت منّي آهة ألم ممزوجة بالغرابة والدهشة!! سالت قطرات الدم من إصبعي! فوضعها فوراً على الدائرة الخضراء ضمن استمارة الاستفتاء  (نعم) وأمرني بالانصراف!

لم يترك لي فرصة الاعتذار عن اعتماد هذه الطريقة بالتعبير عن سعادتي بهذا القانون الذي طال انتظاره.. فأنا مصاب بالسكري ودمي بطيء التخثر.. و.. ولكن من سينتظر شرحي المملّ هذا..! من سيصغي إليّ في أجواء الصخب والضوضاء هذه؟

دسستُ بطاقتي في جيبي، وبصعوبة بالغة شققتُ طريقي وسط هذه الكتل البشرية وتملّصت من الزحمة! مما أدّى إلى انفكاك حزام بنطالي!

بحرجٍ وارتباكٍ شديدين أعدتُ الحزام إلى وضعه الطبيعي.. نظرتُ إلى الصبية القريبة مني أستوضح منها فيما إذا كانت قد لاحظت أي شيء، وسرعان ما احمرّت أذنيّ ووجنتيّ بعد أن أخفت ضحكتها بكفها ورمتني بنظرة باسمة فيها من الخفر والحياء والإفصاح ما يدلّ على ضبطها لحالتي المخجلة تلك!

أدرْتُ لها ظهري على الفور، وتأكدتُ مجدداً من وضع الحزام، وتفّقدتُ سحّاب بنطالي جيداً إمعاناً في الاطمئنان، وقفلتُ عائداً إلى البيت!

يا إلهي! المصيبة الكبرى ليست اليوم، بل غداً!

غداً، سنحتفل بنتيجة الاستفتاء.. وستحتشد المدينة بالمسيرات الضخمة احتفاءً بهذا الحدث العظيم.. وقد يؤدي ذلك إلى فرار العصافير الصغيرة إلى خارج المدينة بسبب الضجيج.. والمشكلة ليست هنا، فلتهرب جميع عصافير الدنيا... المشكلة أن رجليّ تؤلماني كثيراً.. والطبيب حذرني من مغبة الوقوف طويلاً..  فكيف سأشارك بمسيرة الغد؟!

يا ربّي! ما هذه المصيبة! وهل لدي خيارات أخرى أصلاً؟‍!

يبدو أني سأشارك لا محالة، ولكن أقسم بأن صوتي لن يعلو غداً بأي هتاف، وإذا أجبرتُ على ذلك، كأن يرمقني أحدهم بنظرة لها معنى، فسوف أفتح فمي وأطبقه تمثيلاً.. وسوف أقف عند أول زقاق جانبي متشاغلاً بربط حذائي.. إلى أن يسبقني الركب، فألتفت يمنة ويسرة.. وألوذ بالفرار...!

■ ضيا اسكندر – اللاذقية

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.