كان للتطبيع وكر، صار للتطبيع قصر!
نعم، لم يبن هؤلاء المانحون مركزاً ثقافياً في رام الله لهدف التثقيف بحق العودة والوحدة العربية ومقاومة العولمة والاحتلال الصهيوني والأميركي فما بالك بالتثقيف بالاشتراكية!.نعم مورست معصية التطبيع العلني في قصر الثقافة، وأي مكان أنسب من القصور للتطبيع ولاسيما قصر ثقافة ابتناه صهاينة الغرب الرأسمالي وشغل صهاينة التخارج والتأجنب الثقافي والسياسي المحليين. وإلا، هل يتم التطبيع في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين حيث المجاري والأطفال يلعبون سوية!
لكل قرش هدف، وكل فلس هو مشروع استثماري، وعلى من يقبضه أن يدفع أكثر منه. وأقل الدفع هو رد الفلوس فلوساً أكثر منها، أما في حالتنا فالدفع بالأوطان! فبيع الأوطان لا يخضع لحسابات مالية أو لقانون العرض والطلب في السوق، ولا لقانون التراكم.
لم يمض على افتتاح "قصر" الثقافة برام الله بضعة أشهر حتى بانت هويته، فقبل ثلاثة أشهر عرضت في هذا القصر مسرحية تطاولت على الكفاح المسلح، وكان جمهورها من طراز: "مثقفون في خدمة الآخر". المثقفون المتخارجون والمتأجنبون الذين لا يتوجعون بأوجاع هذا الوطن وهذه الأمة، ولكنهم يتوجعون على مصرع أي مستوطن.
منذ مدة، احتوى هذا القصر بين جنباته المخملية والذهبية حفلاً موسيقياً ضم موسيقيين من الكيان الصهيوني وموسيقيين عرباً من رعايا الحكومات التي اعترفت بالكيان الصهيوني وشطبت حق العودة وموسيقيين من "أيتام" التطبيع المحليين. وأشرف على هذه التوليفة الموسيقار اليهودي بيرنباوم الذي زعم بأنه حقق حلما راوده منذ سنين.
لكن هذا لم يشعر، ولا يمكن للموسيقار أن يشعر بأن حلمه الصغير هذا يتحقق على حساب حلم العودة لأكثر من خمسة ملايين فلسطيني غالبيتهم الساحقة ليست من أجواء مثقفي خدمة الآخر. بإمكان برينباوم أن يحيي حفلا كهذا في أي مكان في العالم ولا إشكال، لكن بيرنباوم أصر على اللقاء في رام الله مشفوعاً له بتأشيرات دخول من الاحتلال إلى الأرض المحتلة، أي تشريع الاحتلالين الأول والثاني، وأحضر إسرائيليين يهوداً ومعهم عرب ليقول لنا برمزية، أوضح من الوضوح:
"اتركونا من عقدة حق العودة ومناهضة التطبيع، واكتفوا بما يمكن ان يعطيه الصهاينة لكم". هذه هي رسالة كل من يمارس التطبيع حتى لو كانت عبر الموسيقى. لكن هؤلاء المطبعين لا يقولون ما يريدون، ومع ذلك يطلبون من الناس قبول ما يفعلون!
كتب أحد الصحفيين:
«وجعلت الحكومة الاسبانية تلك الفرصة ممكنة بمنح أعضاء الاوركسترا جوازات سفر دبلوماسية خاصة تسمح لهم بدخول إسرائيل ورام الله. وبينما كان معظم أعضاء الأوركسترا من الأوروبيين فان وجود عدد ضئيل من الموسيقيين العرب والإسرائيليين يعزفون جنبا إلى جنب في رام الله جعل حلم سعيد (المقصود ادوارد سعيد) يتحقق».
هل كانت الحكومة الاسبانية بريئة هكذا حتى تعطي هؤلاء جوازات سفر دبلوماسية؟ وهل حكومة اسبانيا السابقة كانت ساذجة عندما أرسلت جنودها للمشاركة في احتلال بغداد، والحكومة الأسبق التي شاركت برابع جيش عدديا في العدوان الثلاثيني على العراق عام 1991.
وهل حكومة الكيان الصهيوني الأشكنازي ساذجة حيث ضحكت عليها الحكومة الاسبانية وأدخلت "هؤلاء العرب الأبطال - استشهاديي "الموسيقى" إلى رام الله ؟ إذن دخلت "بوارج الموسيقى دون علم الاحتلال" فحررت ثقافة الشعب الفلسطيني وحققت حق العودة ... بالموسيقى!
حبذا لو يفهم هؤلاء التطبيعيون العرب وغير العرب و "العجم" من الفلسطينيين، أنهم ليسوا وحدهم الذين يتذوقون الموسيقى وكافة ألوان الفنون، ولكن لن يفهموا ذلك فإذا فهموا أن هذا ليس حكراً عليهم، فقدوا شعورهم بالتميز عن الآخرين. وحبذا لو يفهم كل من يتمول من الغرب الرأسمالي أن بوسع كل إنسان "بيع" نفسه إذا هبط، وبالتالي بوسعه ان يحصل على الدولار واليورو ويعيش في بذخ ورغد، ويشعر أنه متميز عن الطبقات الشعبية. كلها مشاعر تافهة وعفنة وناجمة عن قناعات بالنقص الذاتي، نقص يتم التهافت لتعويضه بل تغطيته، حتى ولو بكل أنواع الخيانة.
إذا كنتم تعتقدون بأنكم وحدكم الذين تتضايقون من الاحتلال، وتريدون فسحة روحية، فكل الشعب ناس، وكل الناس تسعى للحياة الروحية، ولكن ليس بأي ثمن! ألا تفهمون أن المقاتل والمناضل والشهيد والاستشهادي فعلوا ما فعلوا لأنهم يريدون حياة حرة، فلم يجدوها؟ أم أنكم ممن أبتلع مدرسة جورج بوش وبرلسكوني وثوماس فريدمان، وشارون وأستاذهم المريض برنارد لويس، الذين يتهمون كل العرب، نعم كل العرب وليس فقط الاستشهاديين (انظر "كنعان" العدد القادم أكتوبر 2005) بأنهم ضد الغرب لأنهم يكرهون الغرب وحياة الغرب وحسب!
لن يجديكم شيئاً التزلف للغرب الرأسمالي والزعم أمامه أنكم مثقفون ومتحضرون ونعمون ونعسون (من الجنسين) وتكرهون الإرهاب والإسلام والشيوعية وأنكم بالصدفة وُجدتم في هذا الشرق اللعين، وأن جلدكم ناعم وشعركم أملس، وبطونكم منتفخة مثل (رجال كرتون الشهيد الحقيقي للفن – ناجي العلي) وتحبون الإباحية وتشاهدون أفلام الجنس واللحم البشري المسكين في هذه الأفلام، وأنكم تفهمون الحداثة وما بعد الحداثة وحداثة العولمة، والدادية والسوريالية وتحفظون كتابات هابرماس وفوكو وداريدا وتلعنون ماركس وتخافون المقاومة العراقية، وتطالبون بإلغاء البعث من كل مكان إلى يوم البعث، وتعتبرون لينين ميلا للغرب وستالين قاتل نصف البشرية مثل قابيل...الخ. كل هذا لن يجديكم نفعاً. عندما جاء الجاسوس النمساوي الى نابليون ليسلم عليه بعد معركة هزمت فيها بلاده وكان له دور في ذلك قال له نابليون: «أطلب أي مال، لكنني لا أضع يدي بيد من خان وطنه».
ترى هل خطر ببال أحد أن يسأل بارينباوم: من الذي دفع تكاليف هؤلاء جميعاً؟ أليست الدول المانحة التي هي عراب التطبيع وشطب حق العودة؟ هل يعقل أن يدفع تكاليف هؤلاء فقراء مصر أو أهالي الفلوجة في العراق أو جياع السودان؟ والأهم، هل يدفع الغرب الرأسمالي هذه التكاليف وغيرها الكثير فقط كي يطرب أهل الأرض المحتلة؟ هل يقدم الاستعمار فلساً لوجه الله؟
ولمن لم يعرف بعد، فإن موقف الغرب الرأسمالي بدءً من أوروبا العجوز وصولا إلى آخر طبعات الدموية المعولمة في أميركا أي الإيفانجيليين الجدد، فإن الصراع العربي الصهيوني ملخص حسب قناعاتهم ومواقفهم كالتالي:
1ـ خلقنا إسرائيل لتبقى.
2ـ وطردنا اللاجئين الفلسطينيين بحيث يُوطنوا خارج فلسطين.
(باختصار هكذا، رفعت الأقلام وجفت الصحف وقُطع خط الانترنيت).
على هذه الأرضية علينا قراءة كل ما يقوم به الغرب الرأسمالي، ومن هنا ندرك مخاطر دوره التطبيعي المقود بصهيونيته. وعليه، فمن يمارس التطبيع إنما يقذف حق العودة برصاصة لا أكثر ولا اقل.
يجب الإقرار بأن حصول أي لقاء تطبيعي من هذا الطراز هو مثابة اختراق صهيوني يتعاون فيه الصهاينة من أصول عربية وإسرائيلية وأوروبية وأميركية... الخ لا فرق. ولا يضير الحقيقة صراخ هؤلاء مولولين مستنكرين كي يغطوا الحقائق. فكل من يمارس التطبيع، إنما هو صهيوني، وكل من يتجاوز عن حق العودة هو صهيوني.
وخطورة الصهاينة في فلسطين لا تنحصر في التطبيع مع نظرائهم في الكيان الصهيوني الأشكنازي، بل تذهب إلى استجلاب عرب لزيارة الأرض المحتلة بزعم أنها محررة كما تحرر جنوب لبنان! بهذا الزعم الكاذب خدع هؤلاء عرباً من مختلف الأقطار العربية ليكتشف هؤلاء أنهم عاشوا أياماً هنا تحت "أحذية" جند الاحتلال. فمنهم من شتم الداعين، ومنهم من اكتشف أن عنقه وجدت ضالّتها بالاستنامة تحت بساطير سيده الصهيوني، فعاد وجاء وعاد وجاء حتى...
حاول فريق تطبيعي متمترس ومتمكن في جامعة بيرزيت الإيقاع بالمفكر الاشتراكي المتميز سمير أمين ليزور الأرض المحتلة ويتحدث في جامعة بير زيت. كان ذلك عام 1995، قبل مجيئه المفترض بأسبوعين حيث التقينا في مؤتمر لمناهضة الامبريالية في فرنسا (وكنت أنعم بإذن الخروج آنذاك)، وأوضحت له أن الهدف ليس محاضرة من سمير أمين هي التي ستجعل الطلبة عباقرة اقتصاد (كما افترضوا أن مقطوعة لبرينياوم أو عزفه لبتهوفن سوف تخلق جمهورية أفلاطون الفنية هنا) وإنما الهدف توريط أمثاله كرموز في التطبيع. فاقتنع الرجل ولم يأت.
للموسيقى وقع ورهبة خاصان، تجعلان نقد دورها التطبيعي أمراً صعباً لأن من يمارسون ذلك يعتقدون بأن الفن عالٍ بالنسبة للطبقات الشعبية مما يجعلهم في عصمة وأمان.
لكن المسألة ابعد من كل هذا وعن كل هذا. فالتركيز والتعقيد والتكثيف والجمال الفني للموسيقى، أو أي لون فني آخر، لا يسمح لها أن تكون أهم من الإنسان بما هو واضعها ومنتجها ومؤلفها والمستمع لها، فما بالك إذا تاجر بها؟ وبما أنه لا إنسان معصوم من النقد، فلا شك أن كل فن ليس معصوماً كذلك. وطالما ان الفن في خدمة الإنسان، فلماذا يتم توظيف الموسيقى ضد الشعب والأمة وحق العودة؟ إذا كانت الموسيقى راقية، وهي لا شك كذلك، فلماذا الانحطاط بها في مستنقع التطبيع.
سواء جلبوا من الوطن العربي أكياس بضائع أم موسيقيين ودخلوا الأرض المحتلة وعزفوا مع إسرائيليين حتى لو كان المعزوف هو النشيد الأممي أو "أذان" بلال بن رباح فهو تطبيع! ومن قاموا بذلك يعرفون ما قاموا به وقاموا به قصدا لأن ذلك دورهم ووظيفتهم ومصدر دخلهم وثرائهم وتحولهم إلى "قطط سمان".
أما بيرنباوم، فليس من السذاجة بمكان كي لا يدرك أنه قام بمهمة تطبيعية من الدرجة الأولى لصالح الصهيونية، وتحديداً أنه ساهم في شطب حق العودة. وليس الفلسطينيون الذين استقبلوه وهيأوا له مهمته الصهيونية اقل صهيونية منه. ولا شك أن بعضا من الفلسطينيين يعرفون أن ما قام به هو دور تطبيعي مرسوم، ولكنهم بلعوا ذلك بحكم "عقدة الدونية المزدوجة" لكونه خواجا وكونه موسيقار!
ما من أحد يعرف عن التطبيع أكثر ممن قام به، وذلك تماماً كالسرقة. فأعرف الناس بالمسروق هو السارق.
وحتى بارنباوم نفسه يعرف أنه يلعب دورا تطبيعيا خطيرا. فهو يعرف أن ما قام به في رام الله هو تطبيع يعني اعتبار الكيان الصهيوني مجرد جار للعرب اختلفوا معه على سوء فهم ليس أكثر. وهو يعرف أن أي تطبيع هو شطب لحق العودة. فلا علاقات طبيعية مع كيان استيطاني يعيش على ارض شعبنا المشرد حتى لو كان هذا الكيان "مستوطنة موسيقى، مدينة الموسيقى الفاضلة". فالقاتل قاتل سواء كان موسيقياً أو عامل نظافة بسيط، إن الفارق في المستوى الطبقي الذي خلقه المجتمع الطبقي وليس بين إنسان وآخر، ولا جريمة وأخرى.
في جريمة كهذه قد لا يكون بارنباوم هو العنوان الأول. فالسؤال موجه إلى الذين يستضيفون أعمالاً كهذه والذين يشاركون فيها كمحليين، والذين يباركونها من طراز أحدهم الذي تحدث أمام "ضيوف القصر" عن الضفة والقطاع والقدس، ولم يذكر حق العودة. وكيف يذكر حق العودة وهو يشارك في حفل الهدف منه إلقاء حفنة تراب على هذا الحق!
«ووسط التزاحم الفئوي والتنافس الفصائلي ينسى كثيرون أن الفضل الأول فيما تحقق وما سيتحقق يعود للإنسان والمواطن الفلسطيني، الرجال والنساء والشباب العاديون الذين تحملوا معاناة ثمانية وثلاثين عاما من الاحتلال ... وأجبروا بصمودهم الحركة الصهيونية على أول تفكيك للمستوطنات».
وأخيراً، قد يسأل سائل هل هو حرام أي حديث مع أي يهودي في فلسطين؟ إن في هذا اجتهادات عدة، ولكن، وببساطة، أعتقد أن أي عمل مشترك، إذا كان لا بد منه، يجب أن يقوم على أمرين:
الأول: إقرار اليهودي هنا باعتبار أن فلسطين مغتصبة وأن تشريد 1948 المتواصل حتى اللحظة في مستوى الكارثة النازية باليهود . فمذبحة هتلر بالجملة ومذبحتنا بالتقسيط.
والثاني: أن يعمل من أجل حق عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه ودياره ويناضل ضد الكيان الصهيوني في مشروع كفاحي واضح.
وبالمقابل، لا يقوم عربي بهذه العلاقة إلا إذا كان بالضرورة مناضلا ضد الأنظمة العربية الحاكمة (أنظمة وطبقات) وبهذا تكون هنا جبهة مقاومة في حقبة العولمة وضد العولمة. وهذه تحتاج إلى موسيقى من طراز أعمال ثيودراكيس وغناء بول روبسون وليس بيرنباوم.
■ بتصرف (قاسيون)