تُصبح على وطن أبو بحر

كيف أبدأ رثائي لك يا كمال؟ وأنا الذي اعتاد على مخاطبتك في جميع الرسائل التي كنا نتبادلها بعبارة (صديقي الحبيب)؟

بماذا أخاطبك بعد الآن؟ هل أقول الفقيد الراحل!!!

لا يمكنني ذلك, فأنت باقٍ في قلوبنا وأرواحنا وعقولنا..

صديقي الحبيب كمال!

أيها الغائب, الحاضر أبداً... يا توأم أفراحي الكسيحة وأوجاعي المزمنة..

نصف قرن من التعب والألم والكفاح مرّ على وجودك ولم تنده بالآهة مرة واحدة!

تحمّلت كل ألوان العسف والظلم حتى من بعض الأقارب والرفاق, ولم يزدك ذلك إلا تصميماً وصلابةً وعلمانيةً وتمسكاً بالفكر الذي تنتمي إليه.

أيها الحبيب! أدرك أن البعض سيفركون راحاتهم فرحاً, ويهنؤون بعضهم عناقاً وتقبيلاً, وسيضعون بالخط الأحمر إشارة x)) إلى جانب اسمك في أرشيفهم ويقولون: واخخ..! لقد ارتحنا من أحد أهمّ المنغصين...

وأدرك أن البعض سيهتبل هذه الفرصة ليستعرض عضلاته الثقافية والبلاغية, ويتحفنا بقصيدة ربما يكررها في كل مناسبة مماثلة..

لكنني أدرك تماماً وأنا على يقين تام, بأن الكثير الكثير من الفقراء والشرفاء في هذا الوطن سيقولون: لقد كان كمال مراد رفيقاً مخلصاً لنا..

اعذرني يا صديقي فأنا لا أجيد الفصاحة والكلام في حضرة الموت, بل لا أجيده حتى في الأحوال العادية. وربما يعود هذا إلى تراثنا القمعي, بدءاً من ديكتاتورية رب الأسرة وانتهاءً بقانون الطوارئ والأحكام العرفية وما يتفرع عنهما...

كمال! لن أنسى جسدك الصغير الذي كنتَ تتنقل بواسطته بين الأرياف والبلدان... في الصيف الحار والشتاء القارس.. اجتماعٌ هنا, وندوةٌ هناك. احتفالٌ في تلك الضيعة النائية.. واستعدادٌ لتوزيع "بيان" في ذاك الحيّ الممرغ بالفقر والتعب والآه .. سهرٌ حتى الصباح من أجل صحيفة (نضال الشعب) وبعدها من أجل (قاسيون) دون أن يعتريك أيّ كللٍ أو مللٍ أو شكوى..

كنت على الدوام إلى جانبي في مقالاتي الساخنة والتي تلامس بعضها الخطوط الحمر. تدافع عنها بكل ضراوة وكأنك أنت كاتبها.. وكلما زعلتُ من أسرة التحرير وحردتُ بسبب رفضها لبعض المواد التي أرسلها, كنتَ تتكفل بمواساتي ومراضاتي.. وكم كنت بارعاً في ذلك.

لن أنسى زغردة صوتك عبر الهاتف وأنت تنقل لي في كل مرة, خبر قبول زاويتي في صحيفة «قاسيون» بعد الموافقة على نشرها.. تحدثني بلهفةٍ وفرحٍ, كطفلٍ لاقى ذويه بعد ضياعٍ في زحمة المدينة..!

أيّ رجلٍ أنت ؟!

أيّ شيوعيٍّ نظيفٍ أنت؟!

أذكر أنه كان شغلك الشاغل في الآونة الأخيرة, الاستفسار اليومي هاتفياً عن صحة صديقك (مفيد) المقيم في الغربة.. وأذكر أنني كنت أتمشى وإياك على شاطئ البحر في آخر زيارة لك إلى اللاذقية. عندما عاتبتك على إفراطك الشديد في محبتك لذاك الصديق, وتكبّدك المصاريف الباهظة في متابعة صحته. أجبتني وقتها: هذا مفيد يا عزيزي! لقد حملتُ لقبَ (أبو مفيد) تيمّناً به. صدقني لا أستطيع النوم إذا لم أسمع صوته!

نعم هذا هو كمال مراد الإنسان .. الذي تسامى إلى درجة القداسة في هذا الزمن الرديء!

آخ يا أبا بحر! كم كان غيابك صاعقاً وموجعاً!

لقد رحلْتَ باكراً!

رحلْتَ وما زالت الرؤوس النتنة لم تحطّم بعد!

رحلْتَ وما زالت رائحة الفساد تخنق الوطن..

نمْ هنيئاً يا حبيب!

لن تحمرّ عيناك الحزينتان بعد الآن من رؤية القهر والألم في عيون المستضعفين..

ولن تكظم وجعك وأنت تحاور الرفاق بضرورة تطوير أساليب النضال, بدءاً من جريدة (قاسيون) وانتهاءً باعتماد نهجٍ أكثر قرباً والتصاقاً بهموم الفقراء وتطلعاتهم..

كمال!

أيها البعيد كالحرية, القريب كالهمسة..

أيها الصادق كدمعة طفلٍ, الواضح كالفقر في بلادي..

المجد لك..

الخلود لك..

سلامٌ لك وعليك.. والصبر والسلوان لنا ولذويك..

■ ضيا اسكندر – اللاذقية

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.