أوراق خريفية التذكرة

كأي مواطن صالح يتقيد بآداب الركوب في الباص، صعدتُ من الأمام، وعالجتُ التذكرة بجهاز التحصيل، وتوجهتُ للجلوس بالمقاعد الخلفية من أجل سهولة النزول عند وصولي إلى الوظيفة. إلا أن التذكرة سقطت مني في الممشى المؤدي إلى المقعد الذي اخترته بسبب غريزة حب الاقتراب من الأنثى، التي أيقظتها حسناء فاتنة كانت تزيّنه بطلّتها الجذابة.. وحرصاً مني على ألا يسبقني أحد من الجلوس إلى جانبها.. تغاضيتُ عن التقاط التذكرة، وأسرعتُ قليلاً إلى أن ضمنتُ فوزي بهذا المكسب الصباحي الجميل.

وكلصّ سرق حقيبة ووصل بها إلى برّ الأمان، وبدأ يتمتع بلذة الكشف عن محتوياتها.. بدأتُ باختلاس النظرات من هذه الصبية التي تضجّ بالأنوثة الصارخة. متفحصاً بين الفينة والأخرى، شعرها، صدرها، فخذيها..

إلا أن استغراق الالتفات صوبها، طال في إحدى المرات أكثر من الحدّ العفوي المسموح به عادةً.. مما جعلها تتجه برأسها نحوي مسددةً نظرةً عابسة متحدية، وقذفتني من عينيها برسالة توبيخ زاجرة رادعة.. جعلت قلبي يهوي إلى أمعائي ووجهي يتضرّج بالحمرة! وتملّكني انقباض شديد! أشحْتُ سريعاً بنظري عنها لتدارك الأمر واسترداد بعض التوازن، فاصطدمت عيناي بمشهد المفتش وهو يصعد الباص، وكأن الأرض انشقّت عنه! وبدأ بتفقد التذاكر!!

وكطالب مدرسة لم يحفظ درسه لأول مرة في حياته.. فيختاره المعلم – للمصادفة – من بين جميع الطلاب لتسميع الدرس..!! وجدت نفسي متلبسًا بجريمة لم أقصدها..!

يا عفو الله! التذكرة سقطت مني ولم التقطها!!

جحافل من اللوم الذاتي كرّت إلى مخيلتي!

أكان من الضروري تفضيل الجلوس إلى جانب هذه الصبية على التقاط التذكرة!؟ وهل يعيبني لو انحنيت قليلاً  والتقطتها!؟

البارحة مثلاً، وأثناء عودتي من الوظيفة، وجدتُ ليرة على الأرض، ولم التقطها! ندمتُ كثيراً على تصرّفي.. ماذا يضيرني لو انحنيت قليلاً...؟! فعلاً أنا رجل مغفل، لا يتّعظ من تجاربه أبداً..

لحظات، وسيصل المفتش إليّ!! ماذا سأقول له؟!:

(عفواً أخي! الحقيقة إن التذكرة سقطت مني، وهي مستهلكة... و لهذا لم أحتفظ بها..!)

قد يتطلّع إليّ شزْراً ويشقلني من فوق إلى تحت...!

سأميل على أذنه هامساً:

«عفواً أستاذ! أنا موظف محترم؛ رئيس دائرة في أهمّ شركة بهذه المحافظة، ومن أشدّ المتمسكين بالقانون وسيادته. أترى هندامي وعمري هل يدلاّن على إمكانية تهرّبي من قطع تذكرة قيمتها ليرتان!؟»

طيب، لربما كان وقحاً وفظًا وقال لي:

«أي طظ! لا يهمّني هندامك ولا وظيفتك! ما يعنيني فقط أنك مخالف»

سيلتفت الجميع باتجاهي، وقد يتلذذ البعض ببهدلتي!.... يا ربي سترك! ما هذه الورطة التي وقعتُ فيها؟! ولكن لمَ كل هذا الخوف؟! أسوأ احتمال، سيغرّمني بمبلغ (500) ليرة. سوف لن أسمح له أن ينبس ببنت شفة! سأقول له: عمّي! ماذا تريد؟ (500) ليرة!؟ تفضلْ خذْ! بس ولا حرف ها! فهمت!! وأبقى مرفوع الرأس.. ولكن المشكلة لا يوجد معي سوى (325) ليرة!!

يا الله! لو كنت أملك سيارة خاصة، أو لو كان المدير العام راضياً عني، لسلّمني سيارة. هو للأمانة يحترمني ويقول عني أنني آدمي وشغّيل لكنني عنيد ولا أتّصف بالمرونة  إطلاقًاً..

هه.. أي يروح يبلط البحر! والله والله ، لن أغيّر قناعاتي بعد كل هذا العمر! أمن أجل سيارة وكم إذن سفر بالشهر، سأنبطح!؟

لا عمّي لا! يروح يخيّط بغير هالمسلّة!

ابتسامة المفتش لإحداهن، وهو يتفقد تذكرتها، أعادتني إلى أتون مصيبتي هذه...!

ها هو يقترب من طالبة مدرسة ويمازحها.. ثم ينتقل إلى رجل كهل، فتغيب ابتسامته كلياً، ويتعامل معه بجدية تامة..

يا للهول! يكاد يصل إليّ! خارت قواي! خفقات قلبي يصل ضجيجها إلى أذنيّ.

الباص يتوقف عند احمرار إشارة المرور! مما يعني مزيداً من الوقت للمفتش!

ما هذا الحظ يا ربّي؟!

فعلاً كما يقال: «يا مستعجل وقّفْ تقّلك» لو كان الباص مزدحماً كالعادة، لوصلتُ إلى وظيفتي باطمئنان قبل وصول المفتش. ولكن للمصادفة هذا اليوم، وصل باصان معاً إلى الموقف الذي انطلقتُ منه، فصعدتُ الباص الأقلّ ازدحاماً... أصلاً، أيّ واحد غيري كان سيختار هذا الباص..

أف.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. مازال أمامي ثلاثة مواقف حتى أصل إلى الشركة! إذا نزلت في الموقف التالي، سأضطر إلى الجري.. أو سأستقلّ سيارة أجرة كي لا أتأخّر عن بداية الدوام..

نداء من أعماقي ألهمني عدم خوض هذه المعركة الخاسرة مع المفتش.

استجبت سريعاً! وقفت متحفزاً للنزول! واتجهت للهبوط إلى الدرج المؤدّي إلى الباب!

عندما أقلع الباص لدى اخضرار الشارة، رجوته من أعماقي أن يزيد من سرعته، على الأقل إلى الموقف التالي... لكن هيهات..! الجحش المعقور والأجرب، أفضل استجابة منه... شعرت بغضبٍ شديد أردت التعبير عنه برفس الباب.. ولكن ماذا سيقولون عني؟! نظرتُ إلى المفتش مصعوقاً! لم يبقَ بيني وبينه سوى شخصين فقط!!  يا ويلاه! بدأ العرق يتفصّد من تحت إبطيّ بغزارة حنفية معطوبة.. شعرتُ بأمعائي تنذر بإسهالٍ شديد. وددْتُ لو كان في الباص مرحاض، لاختبأت فيه إلى أن تنتهي جولة المفتش...

خطرتْ على بالي فكرة ادّعاء الإصابة بالإغماء.. لكنني استبعدتها، لما ستسبّبه لي من نتائج لا تقل سوءاً عن غيرها..

ها هو الباص يقترب من الموقف! رمقتُ المفتش نظرة أخيرة.. لم يعرْني أيّ اهتمام. ولكن من يدري؟! لربما التفت فجأة صوبي وطلب التذكرة!

الباب الخلفي يفتح ببطء وكسل لا مثيل لهما في الكون! أمسكت بقبضة الباب وشددته بقوة مساعداً إياه على الانفتاح على مصراعيه.. وكأرنب هارب من قفص فيه ضباع، قفزت مذعوراً إلى الخارج و بدأت الهرولة..

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الثلاثاء, 15 تشرين2/نوفمبر 2016 19:48